زيارة الإمام الأكبر شيخ الأزهر والوفد المرافق له للنجف الأشرف بالجمهورية العراقية

كتبت : أ.د. أحلام الحسن

وصل يوم الأحد الماضي وفدٌ من علماء مشيخة الازهر بمصر، إلى محافظة النجف الاشرف لزيارة مرقد الامام علي بن ابي طالب عليه السلام ، كذلك اللقاء بعلماء العراق .

وذكرت العتبة العلوية في موقعها الرسمي ، أنّ “وفدًا من مشايخ الأزهر الشريف ووفدًا من علماء بغداد تشرفوا بزيارة مرقد أمير المؤمنين علي بن أبي طالبٍ كرم الله وجهه(عليه السلام)”، مضيفة أنه “كان باستقبال الوفد ممثلُ الشؤون الدينية في العتبة العلوية السيد رسول الغرابي ، وعددٌ من منتسبي شعبة العلاقات الداخلية في قسم العلاقات العامة “.

وذكرت قبل عدة شهور تمت دعوتهم رسمياً من الحوزة العلمية في النجف الاشرف ومن الحكومة العراقية.

وأشارت إلى أنّ “الوفد ضمّ ، رئيس جمعية رابطة العلماء في العراق الشيخ الدكتور حامد عبد العزيز الشيخ حمد ، وعميد الدراسات العليا في الأزهر الشريف وممثل شيخ الأزهر للوسيطة والاعتدال الشيخ الدكتور محمد سالم ابو عاصي ، ومدير مركز التصوف في لندن الشيخ عمر النور”.

ولفتت العتبة إلى أن الوفد العلمائي ثمّن حفاوة الاستقبال وكرم الضيافة، معربين عن اعتزازهم وهم في رحاب سيد البلغاء والإنسانية وامير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (ع) ، والذي يمثل الرسالة الواضحة في العدالة والإنسانية”، مؤكدين على إمكانية أن “تكون العتبات المقدسة عموما ومرقد الإمام علي بن أبي طالب (ع)، موقعا مهما لنشر رسالة الإنسانية وتعزيز الإخوة الإسلامية والعيش المشترك

لاصحة لإشاعة تقسيم اليوم الدراسي لأربع فترات دراسية لتقليل الكثافات الطلابية

 كتبت : مني الحديدي

انتشر في بعض المواقع الإلكترونية وصفحات التواصل الاجتماعي أنباء بشأن السماح لكافة المدارس بتقسيم اليوم الدراسي لأربع فترات دراسية لتقليل الكثافات الطلابية خلال العام الدراسي الجديد 2021/2022

  وقام المركز الإعلامي لمجلس الوزراء بالتواصل مع وزارة التربية والتعليم والتعليم الفني  والتي نفت تلك الأنباء  مُؤكدةً أنه

 لاصحة للسماح لأي من المدارس بتقسيم اليوم الدراسي لأربع فترات دراسية لتقليل الكثافات الطلابية خلال العام الدراسي الجديد 2021/2022

 وأنه لم يتم السماح لأي مدرسة بتقسيم اليوم الدراسي لأربع فترات دراسية  حيث يعتبر ذلك مخالفاً لتعليمات الوزارة  موضحة أنه تم إصدار تعليمات بمنح السلطة الإدارية لمديري المديريات بكافة المحافظات بإيجاد الحلول المناسبة لتقليل الكثافة الطلابية وخاصة بالمدارس التي تعمل بنظام الفترتين حيث يمكن إتاحة تطبيق نظام الفترة الثالثة في حالة الضرورة القصوى فقط إذا تطلب الأمر.

وناشد المركز الإعلامي لمجلس الوزراء وسائل الإعلام المختلفة ومرتادي مواقع التواصل الاجتماعي تحري الدقة والموضوعية في نشر الأخبار والتواصل مع الجهات المعنية للتأكد قبل نشر معلومات لا تستند إلى أي حقائق  وتؤثر سلبا على ‏أوضاع المنظومة التعليمية وفي حالة وجود أي شكاوى أو استفسارات يرجى الاتصال على رقم الوزارة (0227963273) وللإبلاغ عن أي شائعات أو معلومات مغلوطة يرجى الإرسال على أرقام الواتس آب التابعة للمركز الإعلامي لمجلس الوزراء (01155508688 -01155508851) على مدى 24 ساعة طوال أيام الأسبوع أو عبر البريد الإلكتروني (rumors@idsc.net.eg).

المصدر: الصفحة الرسمية لرئاسة مجلس الوزراء المصرى

 مرايا التأويل ورؤى الجمال ..قراءة نقدية في قصيدة – ما.. بَعدَ التَّأوِيلِ..- لعمر هزاع ..بقلم / سيد فاروق

توطئة:

****

لا شك أن الشعر هو رأس الفنون الأدبية عند العرب وهو ديوانهم العريق، وقد جعل أرسطو من الفن محاكاة لانفعالات الذات البشرية وأفعالها التي بلورت توجهه الفلسفي والفكري وامتزجت مع هذه القيم الفنية التي سارت في نفق واحد مع الفن الذي أضحى جوهرًا محوريًّا يرسم حياة الإنسان كوجودٍ ثابت انغمس في المحاكاة، على أن هذه المحاكاة موضوعية في سياقها، وبالتالي ذات طابع كلي، تجعل الشعر صورة للحقيقة وتضفي عليه نور الحق.

إذن الفن فلسفة لا تقتصر على تصوير الأحوال الباطنة أو الفضيلة أو الرذائل، بل تمتد إلى محاكاة الأفعال نفسها، وبمعاونة بعض الوسائل الخارجية المظهرية، وأعنى وسائل الإخراج والتمثيل والمنتاج (1)؛

 ولكن هذا ما يراه أرسطو بالنسبة للفن في ذاته، أما فن الشعر في غير حاجة إلى معونة خارجية لتحقيق المحاكاة.

وقد نظر أرسطو إلى التناسق والانسجام والوضوح على أنهم من أهم خصائص الشيء الجميل (2)؛ فالجمال إذن موجود على نحو موضوعي ونسبي في الأشياء والموجودات، وهكذا فإن هناك جمالًا حقيقيًّا في هذا العالم، ولكن عليك أنت أنْ تكون جميلًا كي ترى جمال الوجود من حولك فكلٌّ يرى بعين طبعه، والذي عيناه بغير جمال لا يرى في الكون شيئًا جميلًا.

ولذا فالمحاكاة نظرية فنية عند أرسطو، حيث جعل الفن يحاكي ما يمكن أن يكون، لأنه يترفع عن الجزئيات الكائنة ويغوص في الحيثيات الفلسفية التي تعدت عوالم الطبيعة في البعد الجمالي لتجعله -أي الفن- محاكاة لهذه الأحداث، لكننا نرى بشكل شامل وأعمق أن الشعر كفن أدبي ليس فقط يحاكي ما يمكن أن يكون بل لا بدَّ أن يهتم ويحاكي ما يجب أن يكون، وحسبما نرى أنَّ ثمة فروق جوهرية بين الممكن والواجب.

الفن محاكاة لعناصر الطبيعة من جهة وانفعالات الذات البشرية من جهة أخرى، غير أن المحاكاة قد تختلف في الشعر كوسيلة تعبيرية تجعل من الفن أنموذجًا لنقل هذه التصورات، إنَّ المحاكاة المطلوبة من الشعر ليست فقط أنْ تحتذي مثال الآخرين ولا تعمل كما يعملون دون أن تعلم السبب، بل تعمل أشياء مختلفة تمامًا عن كل ما عُرِفَ حتى ذلك الوقت، كما تقدم هذه المحاكاة نماذجًا يحتذي بها الآخرون، إننا على علمٍ تمامًا يصل حدَّ اليقين فيما ذهب إليه أرسطو في كتاب فن الشعر بأنَّ من أهم أسباب نجاح العمل الإبداعي “أشياء يبدعها خيال الشاعر وتخلفها عبقريته”(3)

وحسبما نرى أن الشعر عملية إبداعية تقوم على تجاوز الواقع لعالم فني يختلقه الشاعر ليعيد بناء مجالات أوسع تحاكي من ورائها مختلف الفنون التي تعدت الوضع الجامد، عملية إبداع فني ناتج عن تفاعل الذات الشاعرة مع الطبيعة والواقع والمظاهر الكونية والفضاء التأملي إنْ جاز لنا هذا التعبير؛

 على أنَّ الشاعر المدرك هو الذي يعيد صياغة الواقع بشكل مجازي غير معتم أو غير ملغز،  إننا نرى أنَّ التجربة الإبداعية يجب أنْ تختزل تلك العبقرية الواعية التي تجعل من الشعر فنًا جماليًّا مؤسسا لتلك الأحداث والانفعالات التي تجاوزت المظهر إلى الجوهر لكونه النواة الرئيسة في جمال كل فن.

ومن هذا المنطلق نستعين بالله تعالي ونبدأ بالقراءة النقدية في قصيدة الشاعر عمر هزاع ” ما.. بَعدَ التَّأوِيلِ..” والتي ستكون من خلال المحاور التالية:

1- موقع العنوان على خارطة النص

2- انفتاح النص على التأويل

3- الثقافات والرؤى في النص

4- عمومية الرؤيا وخصوصية الموضوع

5- جماليات المعنى وصياغة المضمون

6- رؤية الشاعر للقضايا القومية.

1- موقع العنوان على خارطة النص

******************************

لقد أطقلنا على العتبات النصِّيَّة والمنصات الموازية مصطلحًا هو في رأينا أقرب لتفاعلات هذه الأيقونات من النص وهو ما دفعنا إلى تسميتها بهذا المسمى “المواقع الاستراتيجة على خارطة النص”(4).

ومن ثم فالعنوان عندنا هو أحد أهم المواقع الاستراتيجية على خارطة النص الإبداعي كونه يمثل أولى المواجهات مع المتلقى كما يمثل مرتكزًا مهمًا في سبر أغواص النص لما له من سلطة عليا يمارسها على النص محل القراءة.

العنوانَ في الأدب الحديث هو البوابة الأولى التي تضيء للناقد طريقه في سبيل الدخول إلى عالم النص والتعرف على زواياه الغامضة، فهو مفتاح تقني يجس به نبض النص وتجاعيده، وترسباته البنيوية وتضاريسه التركيبية على المستويين الدلالي والرمزي(5).

سيتم دراسة العنوان بوصفه أقصى اقتصاد لغوي في النص الأدبي، وتثير لحظة تلقيه انفعالًا ما مع المضمون النصي، إذ تشكل تلك اللحظة إغواء للمتلقي بضرورة الولوج إلى داخل النص وكشف مدى ارتباط العنوان بمكوناته سواء أكان نثرًا أو شعرًا، فهو مهما تعددت تحديداته “ضرورة كتابية” (6)، أو “بؤرة النص” (7)، أو “مفتاح دلالي” (8)، أو ” لامة لسانية ” (9)، تختزن مكونات النص وتحرك المتلقي باتجاه تحفيزه في دخول تلك المكونات مع دلالاتها بوصفه “بنية صغرى لا تعمل باستقلال تام عن البنية الكبرى التي تحتها، فالعنوان بهذه الكينونة يعد بنية افتقار يغتني بما يتصل به من قصة، أو رواية، أو قصيدة، ويؤلف معها وحدة سردية على المستوى الدلالي (10)؛

ويفترق عنها بوصفه رسالة مستقلة مثلها مثل العمل الذي يعنونه ودون أدنى فارق بل ربَّما كان العنوان أشد شاعرية وجمالية من النص في بعض الإبداعات التي يتوقف اكتشاف المدخل النقدي إليها على بناء نصية العنوان أولًا وقبل أي شيء آخر (11).

يطلق الشاعر عمر هزاع عنوانا مغايرًا للقصيدته “ما.. بَعدَ التَّأوِيلِ..” وهو بذلك يضع المتلقي في مفترق طرق بين رؤية الشاعر وتفسيرها أو تأويلها ثم ماذا سيكون بعد فعل التأويل.

لعلّ أهمّ ما يميّز الشّاعر هو لغته الخاصّة والتّعابير المدهشة الّتي تترك بصمة في اللّغة العامّة، وتحمل تجربة غير مكرّرة، وليست مأسورة بصوت الآخرين ولغتهم.

فيما يعد فعل التأويل مدخلًا مهمًّا لفهم مصطلح الرؤية الشعرية، فهي تعود إلى الجذر اللغوي “رأي” الذي يتفرع منه لفظتا “رؤية” بالتاء المربوطة، وتعني الإبصار المادي المحسوس في حالة اليقظة، والثانية لفظة “رؤيا” بألف المد، ودلالتها معنوية تتصل بالقلب، وما يراه الإنسان في منامه، وجمعها “رؤى” أي أحلام؛

ويرى ابن منظور أن الرؤيا يمكن أن تكون أيضا في اليقظة (12).

أما عن علاقة الرؤية بالشعر، فهي علاقة وثيقة، بل يمكن الجزم بأنَّ الشعر رؤية، تنبع من رؤية الشاعر للواقع المحسوس التي تنعكس على الرؤيا الخاصة به، فالرؤية نظرة حسية لما هو موجود، والرؤيا متجاوزة لما هو موجود إلى الخفي مكتشفة العلائق لبناء عالم جديد، والفصل بين الرؤية والرؤيا مستحيل (13).

فمن المحسوس يتكون النفسي والفكري، والتصورات الفكرية والنفسية تنعكس على الرؤية الحسية، فالعلاقة بينهما ارتباطية وانعكاسية على الكون، والطبيعة، والحياة، والقصيدة، والإنسان، وعلى لغة الشعر وإيقاعه وصوره ورموزه وتراكيبه.

إنَّ العنوان الذي أطلقه الشاعر عمر هزاع  ” ما.. بَعدَ التَّأوِيلِ..” وضع القارئ في دائرة الإغواء والإغراء وفتح أمامه سلسلة من التساؤلات تتصل برؤيا الشاعر وعلاقتها بفعل التلقي ليقف القارئ حائرًا متسائلًا ما هي رؤى الشاعر؟!!! ، وما هو تأويلها؟!!!، ثم ماذا يكون بعد التأويل ؟!!!

وعادة ما تفعل تلك العناوين المراوغة بالقارئ الأفاعيل، فتجعله مؤثث بالدهشة والحيرة، حيث إنَّها لا تسلم نفسها بالسهولة إلى المتلقي ليجد نفسه مرغمًا على سبر أغوار النص للوقوف على تلك المفارقات علَّه يجد إجابة شافية لما طرحه خطاب العنوان من تساؤلات، وحسب رأينا “ما.. بَعدَ التَّأوِيلِ..” عنوانًا مشاكسًا وموقعًا استراتيجيًّا مهمه وفق فيه الشاعر إلى حدٍّ كبيرٍ.

2- انفتاح النص على التأويل.

*************************

أنَّ التأويل لا ينبغي أن يقتصر على الملاحظة أو على إيجاد أوجه شبه ربَّما هي من قبيل الصدفة فحسب، بل ينبغي أن تكون عملية التأويل قراءة تستخدم جملة المعارف التي هي بحوزة القارئ في علاقة متماسكة مع النص.

وعلى هذا الأساس فإن القراءة في نظر (إيكو) تدخل حثيثًا(14)، وتعمل على تنشيط النص الذي هو، آلة كسولة « Une machine paresseuse » تحتاج إلى قارئ نموذجي « Un lecteur modèle » يفعل في “التوليد مثلما فعل الكاتب في البناء والتكوين، ويكون قادرًا على تحيين « Actualisation » النص بالطريقة التي كان يفكر بها الكاتب”(15)،

وبهذا المعنى فإنَّ النص يحتاج كثيرًا إلى مساعدة القارئ، أي إلى تدخله السريع النشيط حتى يتمكن من ملء فراغاته والخروج عن صمته وتحقيق جماليته.

وقد أعطى الشاعر عمر هزاع أنموذجًا حيًّا لنص منفتح على التأويل والرؤى بداية من العنوان “ما.. بَعدَ التَّأوِيلِ..” ثم افتتاحية النص باستهلال حواري بارع صادم مثير للدهشة حيث قال:

وَفَتًى..

يُقالُ لَهُ:

استَعِدَّ..

لِتُعدَما..

وَتَصُبَّ؛ بَعدَ نَفادِ أَدمُعِكَ؛ الدَّما..

مُذ جِئتَ في الزَّمَنِ الخَرُوسِ وَلَم تَزَلْ؛ عَبَثًا؛ تُحاوِلُ أَن تَصِيرَ لَهُ فَما..

وَسُدًى..

تُذِيبُ العُمرَ شَمعًا..

بَينَما تَنمُو الظِّلالُ عَلى شُعاعِكَ أَنجُما..

يَمتَصُّكَ الماضُونَ

كُلُّ مُؤَخَّرٍ يُمسِي؛ إِذا طَفَحَ الضِّياءُ؛ مُقَدَّما..

هَذاكَ بَعضُكَ..

يا فَتًى..

هاتِيكَ مِن بَعضِ الذي قَشَّرتَ جِلدَكَ..

فارتَمى..

يا أَيُّها السَّيفُ العَنِيدُ..

تَكَسَّرَتْ كُلُّ السُّيُوفِ..

وَلَن تُسَلَّ..

لِتَلحَما..

كانَتْ تَمُرُّ بِكَ الرِّقابُ..

فَتَنحَنِي..

وَالآنَ..

تَصدَأُ بِالسُّكُوتِ..

مُثَلَّما..

يا أَيُّها الرُّمحُ المُثَقَّفُ..

لَم يَعُدْ وَحشِيُّ يَطلُبُ بِالرِّماحِ المَغنَما..

********************

لقد استهل الشاعر قصيدته بالإخبار عن حكم بالإعدام لشاب يطلب منه الاستعداد لتنفيذ هذا الحكم “وَفَتًى.. يُقالُ لَهُ: استَعِدَّ.. لِتُعدَما.. وَتَصُبَّ؛ بَعدَ نَفادِ أَدمُعِكَ؛ الدَّما..”

وهنا يصدع القارئ مفجوعًا من هول الحدث في هذا الاستهلال الصادم كيف أنَّ الشاعر بدأ القصيدة فيما بعد النطق بالحكم قبل معرفة القضايا المتهم فيها هذا الفتى ثم ما هي حيثيات الحكم المفضى إلى الموت الحتمي؟!!!، ثم من هو هذا الفتى ابتداءً؟!!!.

إذا تأملنا في لفظة “فتى” سنجد أنَّ الفَتَى : الشابُّ أوَّلَ شبابه بين المراهقة والرُّجولة “الشاب من سن خمس عشرة إلى ثلاث وثلاثين.” (16).

وقد ورد في محكم التنزيل قوله تعالى: (قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ ) الأنبياء آية (60) ، و الفَتَى السَّخِيُّ، و الفَتَى ذو النَّجْدة، كما ورد أيضا في سورة الكهف (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى) آية (13)

لعلَّنا أدركنا الآن لماذا أختار الشاعر لفظة “فتى” لتكون أولى المواجهات في خطاب الاستهلال فهو من القوَّة بمكان فالفتى أطلق على خليل الله إبراهيم حين كسر أصنام القوم  والفتية أطلقت على أصحاب الكهف إذ نصرو ربهم بالإيمان به واعتزال قومهم، إنَّ الفتية هم المنوط بهم حمل الرسالات فهم دعائم ورأس مال الأمم الحقيقي، ترى ما هي رسالة الشاعر التي أراد ان يبثها لنا؟!!! 

حسبك يا عمر هذا الاستهلال المثير البارع الذي وَرَّطَ القارىء في سبر أغوار النص واستثار حافظته للوقوف على تداعيات الحدث ومعرفة القضية وحيثيات حكمها واستحضار أفق التوقع لديه ليس لتأويل النص فحسب بل استعدادًا لاستقبال نص منفتح على التأويل يبدأ عنوانه بـ “ما.. بَعدَ التَّأوِيلِ..”، ويبدأ استهلاله بالفتى الذي يستعد للإعدام قبل أن يعرف القارئ قضيته.

إذن من هو القارئ الذي أراده الشاعر الذي يأوَّل ما بعد التأويل؟!!!

إنَّه القارئ الواعي الذي يتحرك في كونٍ من الثقافة العلمية، العليم بمجريات الأحداث الواقعية والذي يحظى بدرجة عالية من الفهم والإدراك لاستنباط ما بعد التأويل.

يستطرد الشاعر عمر هزاع ليعرض لنا أولى القضايا والتداعيات التي أودت بالفتى للإعدام “مُذ جِئتَ في الزَّمَنِ الخَرُوسِ وَلَم تَزَلْ؛ عَبَثًا؛ تُحاوِلُ أَن تَصِيرَ لَهُ فَما..”

مفارقة بين الصمت والكلام فإذا كنا في “الزمن الخَرُوس” على حدِّ قول الشاعر فمن العبث أن تتكلم وتبوح بما سكت عنه الزمان ولكن إصرار الفتى على أن يرصد ويتكلم ويحكي على الملأ هو الذي جعل من مادة البوح تهمة كبيرة وخيانة عظمى استحق عليها الإعدام.

ثمَّة مهلكة ثانية وتهمة أخرى أوردها الشاعر في قوله: “وَسُدًى.. تُذِيبُ العُمرَ شَمعًا.. بَينَما تَنمُو الظِّلالُ عَلى شُعاعِكَ أَنجُما.. يَمتَصُّكَ الماضُونَ كُلُّ مُؤَخَّرٍ يُمسِي؛ إِذا طَفَحَ الضِّياءُ؛ مُقَدَّما..”

يخاطب الشاعر ذاته التي آمنت أنَّ الشعر قضية قومية فلا بدَّ للشاعر أن يتحدث بلسان قومه ولا بدَّ أن يكون لهذا الشاعر ضوء العلم إذا حلك الجهل ظلاما؛

بيد أنك أيُّها الفتى الشاعر إذا كنت في زمن الخرس فمن التهمة التي تحاسب عليها أن تتكلم وهنا يذكرنا عمر هزاع بقول الشاعر العراقي أحمد مطر في لافتاته حين قال: “خيروني بين موتٍ وبقاء.. بين أنْ أرقص فوق الحبلِ.. أو أرقص تحت الحبلِ.. فاخترتُ البقاء.. قلتُ: أعدم.. فاخنقوا بالحبلِ صوتَ الببغاء.. وأمدوني بصمتٍ أبديٍّ يتكلم !” إنَّها ضريبة الشاعر التي يحمل على عاتقه هموم الأمة، فالبقاء للشاعر عمله الهادف وما يقدم من قيمة حقيقية، وإن عدم بسبب البوح وكلمة الحق فإنَّه على الجادة وصوته سيكتب له الخلود وإنْ صمت اللسان نتجة خروج الروح؛

ولنفس السبب كانت محاكمة الذات الشاعرة للفتى حين ارد البوح في قصيدة “ما بعد التأويل”. 

وإذا كنت في زمن الظلام وساد المساء أزمانا، فمن البلاهة أن تكون الشمعة التي تُذَاب لتبث الضوء للأخرين، إذ كيف يعلم من كان تجهيلهم مقنن ومستهدف، إنَّها تهمة عظمى أيضًا استحق عليها الإعدام.

بيد أننا إذا حاولنا الفصل بين المضامين التي يحتضنها النص وبين العمليات الذهنية المرافقة للنشاط التأويلي سنجد أنفسنا بين أمرين، بين الذات القارئة التي تقوم بالتجسيد المعنى بمفهوم جماليات التلقي أي تحيين مجمل معطيات الموسوعة الثقافية وفق حاجات يفترضها النص لكي يسلم مفاتيح قراءاته، وبين المعرفة التي قد نحصل عليها من خلال فعل التأويل، يتسرب ما يعرف بـ “الانتقاء السياقي” كحد فاصل بين التأويل الذي لا تحكمه ضفافًا ولا حدودًا، وبين مفهوم المسار التأويلي.

أنَّ غاية التأويل كما يري إيكو “تهدف إلى الوصول إلى نقطة دلالية بعينها ضمن سيرورة تأويلية محددة بسياق خاص”(17).    

إننا نرى أنَّ فعل القراءة النقدية هو تفاعل مركب بين أهلية القارئ -معرفة الكون الذي يتحرك داخله القارئ- من ثقافة وذائقة وإدراك ووعي، وبين الأهلية التي يستدعيها النص لكي يقرأ قراءة تعبر عن ما يحمل من مضامين خفيَّة.

هذا التفاعل المركب هو الذي يحدد طبيعة القراءة ودورها في تحيين المضمن واستدعاء الكامن وتقسير الغامض واستنطاق المسكوت عنه، على اعتبار أن النص يقوم على جانبين اثنين: جانب المنطوق، وهو الذي يشغل سطحه وظاهره، وجانب المسكوت عنه، وهو الذي يستدعي القدرة “التناصية” للقارئ كي يتم تحيينه أثناء القراءة.

وحسب رؤيتنا أنَّ مجمل الممكنات التأويلية القابلة للتجسيد من خلال القراءة المتعددة لهذا النص تقودنا إلى فرضيات أولى تم تكونها عن المعنى، فالشاعر حدثنا بصوت الراوي العليم بالأحداث في مادة الحكي وهو في حالة من اللا وعي والتي قرر فيها النطق بالحكم على الفتى ثم يرجع الشاعر لحالة الوعي ليرصد لنا أهم تداعيات الحكم وحيثياته، والأسباب التي أودت بالفتى الدخول في هذا النفق المظلم، ورغم أنَّه يلقي باللائمة على الفتى كونه تكلم في زمن الصمت، كما كان الشمعة المذابة احتراقًا، الباثة للضوء هو على يقين تمامًا بأنَّ الفتى لم يخطأْ بعد، وأنَّه على الجادة وأنَّه المنوط به حمل هذه الأمانة السامية، وهو ما أوجب عليه أنْ يتحدث عن معاناة أمته وأنْ ينشر بين أبنائها العلم والثقافات.

3- الثقافات والرؤى في النص

*************

إنَّ علاقة الرؤية بالشعر، علاقة وثيقة، بل يمكن الجزم بأنَّ الشعر رؤية، تنبع من رؤية الشاعر للواقع المحسوس التي تنعكس على الرؤيا الخاصة به، فالرؤية نظرة حسية لما هو موجود، والرؤيا متجاوزة لما هو موجود إلى الخفي مكتشف العلائق لبناء عالم جديد والفصل بين الرؤية والرؤيا مستحيل (18). 

ثمة فروق جوهرية بين الرؤية والرؤيا

فالرؤيا بذلك تكون مرادفة للبصيرة الشعرية، أما الرؤية فهي تترادف مع البصر(19).

وعلى ذلك تكون الرؤيا مرتبطة بالبصيرة وتعني: فطنة القلب، التي هي ناتجة عن التبصر، من خلال  التأمل والتعرف والتفهم (20).

وهو ما ذهب إليه “مدكور” في المعجم الفلسفي أنَّ الرؤية تتعلق بفعل الحس البصري المحسوس، أما الرؤيا تطلق على الإدراك لما هو روحاني ومنه الوحي والإلهام(21).

وبذلك تكون الرؤيا الشاعرية لدى الشاعر هي التي تؤدي في النهاية إلى العلم والفهم المعمق، وتلتقي مع الرؤية البصرية لأن العين مفتاح الشاعر للنظر إلى الموجودات، وتأملها حسيًّا، ومن ثم يختزنها في أعماقه، ويصهرها في ذاته، لتتجلى أخيلة في شعره، وإبداعه متكأً على ثقافته العميقة ولغته الرصينة.

إنَّ الشاعر يُكَوّن رؤاه من خلال معايشته الفكرية والنفسية والحياتية والوجودية والتفاعلية مع الأفكار والطبيعة والبشر وسائر الكائنات والموجودات، وكلَّما كان تفاعله صادقًا، وفكره عميقًا، وإحساسه شفافًا ؛ جاءت رؤاه جديدة مبتكرة، تنعكس تميزًا في أشعاره.

وفي تقديرنا للرؤية الشاعر في جوهرها هي رؤية شاملة مكتشفة للوجود الذي تصفه، وعاكسة للنسيج الحضاري المعقد، كما أنَّ المواقف والأفكار، التي يتبناها صاحبها تبقى فارغة بلا هوية ما لم تجسد التجربة الإنسانية.

وتبقى رؤية الشاعر وثقافته الموسوعية أدوات متفردة وهي الوحيدة التي تستطيع أنْ تعيد صياغة العالم على نحو جديد حسبما يتطلع إليه الشاعر.

أيها القارئ أنت مدعو للتأمل في رؤى الشاعر عمر هزاع في قصيدته “ما بعد التأويل” لتقف على عمق التجربة الشعرية للشاعر وهو يعيد صياغة الواقع من حوله بشكلٍ جديدٍ في حواية مع الذات الشاعر فلننظر سويًّا إلى هذا المقطع الذي يقول فيه:

يا أَيُّها الرُّمحُ المُثَقَّفُ..

لَم يَعُدْ وَحشِيُّ يَطلُبُ بِالرِّماحِ المَغنَما..

يا نَخلَةً لِلذِّكرَياتِ..

تَجَشَّمَتْ أَن تَصدِمَ النِّسيانَ حِينَ تَوَهَّما..

ما حَطَّمَتكَ الرِّيحُ..

يَومًا..

إِنَّما أَمسَيتَ تَنتَظِرُ الضَّرِيحَ..

مُحَطَّما..

مُذ أَوَّلَتكَ الرِّيحُ رَملًا أَوعَزَتْ:

ذرُّوهُ..

بَينَ الجاهِلِينَ..

لِيَفهَما..

هَل كُنتَ؛ بِالتَّأوِيلِ؛ تَبسِمُ؟

باكِيًا!

أَم كُنتَ تَبكي الجاهِلِينَ؟

تَبَسُّما!

هَل كُنتَ تَحفِرُ أَبجَدِيَّةَ طِينَةٍ؟

فَتَهَجَّأَ المَعنى الجِراحَ!

فَتَمتَما؟!

أَم كُنتَ تُطعِمُ؛ بِالضَّمِيرِ؛ قَصِيدَةً؟

حَتَّى تَوَسَّلتَ القَصِيدَ!

لِتُطعَما؟!

************

إنَّ الشاعر هنا يعيد صياغة الواقع بشكل جديد فهو يبث لنا صورة مشهدية للصراع بين الذات الشاعرة والواقع المعاش بلغة عميقة مختمرة بالإرث الثقافي المعتقدي لديه، حيث تعد التجربة الشعرية في أساسها تجربة لغة في المقام الأول، فهي تعطي الشاعر مؤشرًا دلاليًّا على خصوصياته ومواقفه وأفكاره، كما تضيء المساحة المظلمة من اللا شعور، ومنه تجسيد كل أنواع الدلالة فهي كذلك “الوجود الشعري الذي يتحقق في الّلغة انفعالًا وصوتًا موسيقيًّا وفكرًا” (22)؛

أنَّ الشاعر أدرك حقيقة الصراع فالحرب لم تعد بين الجيوش في ساح المعارك إنما أضحت حرب فكرية تستهدف العقول، وعلى ذلك كان لا بدَّ من إعادة تشكيل السيف المسلول على رقاب الأعداء آنفًا، حتى يتناسب وطبيعة الحرب الباردة، إنَّه سيف الكلمة التي تأثر والبوح الذي يكشف الحقائق، إلَّا أنّ سيف الكلمة المعول عليه في تلك المعركة آل الآن إلى الصدأ بفعل الصمت الناتئ على حدِّه فما عاد يجدي الصمت، ولذا بدأ الشاعر بالبوح.

وأما الرمح حسبما يرى الشاعر فلا بدَّ أيضًا أن يتناسب وطيبعة الصراع ولا بدَّ أنْ يكون مغايرًا لما هو مألوف لدى العامة عن شكل الرمح ووظيفته “لَم يَعُدْ وَحشِيُّ يَطلُبُ بِالرِّماحِ المَغنَما” إذن فهو “الرمح المثقف” الذي يكشف ظلام الجهل بما يحمل من علم وثقافة ورؤى وتأويل.

الشاعر بثقافته يقف على أرضٍ من الصلابة بمكان فهو كالطود العظيم الراسخ ولذا لم تؤثر فيه كثرة العواصف “ما حَطَّمَتكَ الرِّيحُ.. يَومًا..” إنما حاولت أن تأوّل هذا العلم إلى رملٍ كي يسهل عليها بثه لنشر العلم حتى يعي كل جاهلٍ، ويدرك كل مُغّيَّب “مُذ أَوَّلَتكَ الرِّيحُ رَملًا أَوعَزَتْ: ذرُّوهُ.. بَينَ الجاهِلِينَ.. لِيَفهَما..”

لم يطمح الشاعر عمر هزاع في ” ما بعد التأويل” أن يكون لأشعاره تأثيرًا جماليّاً وحسب، بل امتدّ طموحه لما بعد ذلك ليتمّ مناقشة أمور أخرى فلسفية وجدانية، وفكرية، وثقافيّة، وتعدّتها إلى بؤر معرفيّة أبعد، ومسّت الواقع المعاش والأفكار الكبرى الجمعيّة وهو بذلك ينتقل من الخصوصية الذاتية التي يحاور فيها الشاعر ذاته إلى عموميات تهتم بقضايا الفكر القومية المعاصرة.

وحسبما نرى أنَّه لا بدّ من أنْ يعيش الشّعر في الوجدان والعقل ليُحدث ذلك التّأثير المطلوب، وهكذا يجب أنْ يكون مطمح الشاعر، وهو ما يدفعه دائمًا إلى التّطوّر وإلى البحث عن أشكال وفعاليات جماليّة جديدة وتراكيب تحمل في طيَّاتها خصوصية ذاتية صادمة ومؤثّرة. 

4- عمومية الرؤيا وخصوصية الموضوع  

********************************   

ثمة ملاحظة نلحظها في المقطع السابق وهي أن للرؤيا الشعرية عند -عمر هزاع- علاقة مباشرة مع الموضوعات التي يختارها الشاعر في أعماله، ولذا نراه يخاطب الذات في خصوصية إبداع يتساءل “هَل كُنتَ تَحفِرُ أَبجَدِيَّةَ طِينَةٍ” إنَّها خصوصية اللغة التى تمنح الشاعر ملكة خاصة للتعبير عن ما تجود به قريحته ولذا فهو يعيد صياغة الواقع بلغة خاصة ليعبر عن روآه الشخصية في القضايا العامة فحينما حفر أبجدية الطين وهي لغة الأرض فما كان من تلك اللغة إلَّا الجراح “فَتَهَجَّأَ المَعنى الجِراحَ! فَتَمتَما” لقد آمن الشاعر بقول الحق ولذا فقد قرر حمل الرسالة فنكأَ الجرح على رؤوس الأشهاد، حتى أنَّ المعنى يتمتم به على استحياء كيف لا والشاعر ” يُطعِمُ؛ بِالضَّمِيرِ؛ قَصِيدَةً” فتوسَّلت القصيد لأن تُطعَمّ بالصدق والضمير الحي.

إذن نحن أمام رؤية عامة، ترصد واقع الأمة بين جهلٍ وصمتٍ وتقاعسٍ عن قول الحق ونصرته وقلة ضمير، إنَّها عموميات نستشعرها في واقعنا المعاش، أما الموضوع فخاص، وهو كيفية صياغة الشاعر للواقع بأبجديته الخاصة،

وهذا يعني:  وحدة من وحدات المعنى في النص، وتبدو في وحدات: حسية أو علائقية أو زمنية مشهود بخصوصياتها عند الشاعر، هذه الوحدات هي المادة التي يبني عليها الشاعر إبداعه، وتبدو واضحة في البناء اللغوي والمفردات في النص، مما يستلزم آليات منهجية وثقافة موسوعية لسبر أغوارها حتى يصل المتلقي إلى ماوراء المعنى أو المضمون المسكوت عنه في النص الشعري.

5- جماليات المعنى وصياغة المضمون 

**********************************

لقد أدركنا أنَّ الشعر لا بدَّ أن يكون نتاج تجربة إنسانية عميقة ومتجذرة، ويجب على الشاعر أن يدعم قصيدته بمخزون ثقافة إنسانية كبيرة، فلابد أنْ تحمل تجربته الإبداعية همَّا فلسفيًّا ذاتيًّا حقيقيًّا من جهة، وهما اجتماعيًّا جمعيَّا من أخرى، ولا بدَّ أنْ يعيد صياغة الواقع بلغة جديدة تأثر المتلقي بمستواها الجمالي، وهو ما تلمسناه في التجربة الشاعرية للشاعر السوري عمر هزاع إلى حدٍّ كبير.

فعندما تقرأ قصيدة “ما بعد التأويل” التي بين أيدينا تجد نفسك بين إشكاليات كثيرة وتناقض وهمٍّ، فتخال الشاعر حينئذ رسول الصدق في زمن الكذب، أو مبعوث الحق في زمن الصمت، لكنه مدرك تمامًا لقضيته حتى وهو في حالة اللا وعي، إلى درجة استشعاره لأدق تفاصيل المعنى، ذاك أنَّه يخلق الشراكة بفن ليقحم القارئ في فضاءاته كيما يعيدا – الشاعر والمتلقي – صياغة التأويل تلو التأويل، وإن كنا على مشارف ما بعد التأويل،

هذا التفاعل البناء بين الباث (الشاعر) والقارئ (المستقبل) هو الذي يعيد صياغة المعنى من جديد، ليندك حينها الفاصل بين القارئ والشاعر إلى درجة أنْ يوَّلد كلاهما ذهنًا شبقًا ينساب المعنى من خلاله في مبادرة جديدة لخلق المعنى وصولًا إلى صياغة المضمون.

تأملات ومفارقات ذاتية ساقها الشاعر في المقطع التالي لينتقل بسلاسة إلى تيمة النص وفكرته العامة والقضايا القومية المعاصرة فتأمل معي حديث الذات في حوارية درامية مشهدية بين مهمة الشاعر وأهميته ومكانته قديمًا وما وصل إليه من حال، وفي هذا الإطار يقول الشاعر:

يا شاعِرَ الثَّوراتِ..

أَيَّةُ مِحنَةٍ قُدِرَتْ عَلَيكَ؟!

لِكَي تَعِيشَ مُقَسَّما!

لِتَعِيشَ في المَنفى اغتِيالَكَ؟

واضِحًا!

وَتَمُوتَ في أَوجِ انفِعالِكَ!

طَلسَما!

لَم يَذكُرِ التَّارِيخُ؛ يَومًا؛ حِقبَةً مِثلَ التي فِيها غَدَوتَ مُقَزَّما!

فاقنَعْ..

عَلَيكَ اللَّهَ..

هَذِي أُمَّةٌ وُسِمَتْ بِجَهلٍ..

قَبلَ أَن تَتَوَسَّما..

فَلَكَم تَقَمَّصَتِ البِغاءَ طَهارَةً!

وَتَأَبَّطَتْ كُفرًا!

لِكَي تَتَأَسلَما!

يا أَيُّها الوَجَعُ المُعَتَّقُ..

إِنَّها تَقتَصُّ مِنكَ..

مُحَلَّلًا..

وَمُحَرَّما..

قَتَلَتْ جَمِيعَ الأَنبِياءِ..

وَلَم تَزَلْ تَدعُو “مُحَمَّدَ” – يا نَبِيُّ – “مُذَمَّما”!

الدَّاعِشِيُّونَ القُدامى؛ ذاتهُم؛ يَتَكَرَّرُونَ..

مُمَنطَقًا..

وَمُحَزَّما..

وَمُقَدَّسًا..

وَبِذِي الدِّماءِ..

مُغَمَّسًا..

وَبِلا عَمائِمَ..

تارًةً..

وَمُعَمَّما  

************

إن هذا المقطع يؤكد ما ذهب إليه كل من رائدا سيمياء العواطف – أ. ج. غريماس وج. كورتيس من أهمية الّلغة في تشكيل العاطفة والتعبير عنها ” فالّلغة الطبيعية ما هي إلَّا شاهد على ما يحمله تاريخ ثقافة كعاطفة من بين كل التداخلات الصيغية الممكنة، وما يحقق الوجود الخطابي للعواطف هو الاستعمال الجماعي أو الفردي لها “(23).

إنها عاطفة الشاعر إلى بث الحقيقة من خلال حديث الذات لينقلنا من الهم الخاص إلى القضايا العامة، نعم كيف لشاعر الثورات أن تقدر عليه المحن؟ ليعيش مقسَّما في منفاه بين هموم الذات وهموم الأمة، ثم يموت طلسمًا كالأحاجي أو كتعويذة لم بفسر معناها بعد، وهو ما قرره الشاعر في هذا السطر الشعري: “لِتَعِيشَ في المَنفى اغتِيالَكَ؟ .. واضِحًا! .. وَتَمُوتَ في أَوجِ انفِعالِكَ! .. طَلسَما!”.

ومن ثمَّ كيف تقزَّم دور الشاعر في هذا الزمان؟!!! بعدما كان عظيم قومه، فهو المتحدث الرسمي بأسم القبيلة فقد كان يمثل عدة وزارات معنية مثل الثقافة والأعلام والتعليم والخارجية غير أنه كان سفير قومه حامل هموم أمته.

فيما يحاول الشاعر أن يقنع ذاته بالحقيقة المؤلمة التي آل إليه وضعه الجديد ووضع أمته ” فاقنَعْ.. عَلَيكَ اللَّهَ.. هَذِي أُمَّةٌ وُسِمَتْ بِجَهلٍ.. قَبلَ أَن تَتَوَسَّما.. فَلَكَم تَقَمَّصَتِ البِغاءَ طَهارَةً! وَتَأَبَّطَتْ كُفرًا! لِكَي تَتَأَسلَما!”

وهنا ينقلنا الشاعر إلى تداعيات الأزمة وما آل إليه حال أمته بعد أن اتصفت بالجهل وتقمَّصت البغاء لتدعي الطهر واحتضنت الكفر لتتأسلم أي تدعي الأسلام، وإذا وشمت أمة بجهلٍ وقتلت أنبيائها فلا غور من تداعي الأمم عليها فداعشون يدعون الإسلام وهم ينخرون في جسد الأمة فما بالك من غيرهم.

سبحان من علمنا البيان، لعلنا نتساءل هنا كيف صاغ الشاعر من جماليات المعاني تراكيبًا لغوية تحمل المشاهد الحياتية القاتمة، بل وتحمل أحيانًا القتل والاغتيال، وانقضاء الحياة ” وَتَمُوتَ في أَوجِ انفِعالِكَ! .. طَلسَما!”.

وهنا ندك حقيقة مهمة أنه لا تنفك اللذة الجمالية في تلقي النصوص الشعرية بمعزل عن تحقيق القيمة، وليس بالضرورة أن يأخد رصد الحدث ملمح التقريرية والمباشرة ولهذا، فإن من أولى مؤشرات الشعر الضرورية تحقيق المتعة الجمالية؛

وفي هذا الصدد يقول الناقد الجمالي جان برتليمي: ” إن الأعمال الفنية الجميلة تمتع الإنسان بالجمال الذي تغذيه”(24).

وهذه المتعة الجمالية؛ إن لم تحقق قيمة جمالية أو فنية لا أهمية لها في عالم الفن؛ لأن الفن – بالأساس – “من معدن القيمة، وليس من معدن الوجود” (25)، وعندما يدرك الشاعر وظيفته فيكون هو لسان حال الأمة يرصد واقعًا ويعَّل السلوك، ويعالج آفات المجتمع، فهو بذلك يحقق قيمة مضافة تضفي جمالًا على المنتج الإبداعي حتى وإن كان الحدث يأخذ شكلًا دراميًّا؛ أو مأساويًّا في بعض الأحيان.

ومن هذا المنطلق ندرك تمامًا أنَّ الّلغة هي صورة للوجود يجسد الثابت منها الألفاظ وأما المتحول منها فهي الدلالات، إذ تبني علاقات مألوفة أحيانا وغامضة في كثير منها، خاصة عندما يتعّلق الأمر بالّلغة الشعرية لكونها تنزاح عن الدلالة الّلغوية من وضعها القاعدي الاصطلاحي إلى حيز الغموض والتعقيد في بعض الأحيان؛ لأن الشعر قوة ثانية للغة وطاقة سحر وافتتان، وهو يقوم على تحويل المعنى الموصوف من معنى ” تصوري ” إلى معنى ” شعوري” (26).

وحسبما نرى أنَّ الشاعر عمر هزاع أطلق صورًا جمالية مكثفة في معظم مقاطع القصيدة حتى التي تحمل المشاهد الحياتية القاتمة حيث يبث طاقته الإيحائية ذات الخواص الجمالية الفعالة في مخيلة المتلقي، ويغذيها بنوازع البحث، ويغريها بالتطلع إلى ما وراء الأكمة إذ لا بدَّ أن خلف البناء الجمالي التخيلي عالمًا آخر يختبئ تحت الظلال، وإنَّ اكتشافه لا بدَّ أن يكون بتأويل الدلالات المتعددة لما تحمله الصور الجمالية وليس من الصعوبة بمكان نظرًا للسلاسة الأسلوبية التي تسكن التجربة الشعورية، وعناصرها العاطفية التي لا يقيدها منطق أو عقل، غير أنَّ التراكيب الشعرية باهتزازاتها الموسيقية والشكلية توحي كثيرًا للمتلقي بالمعاني التي تبثها الصور الجمالية أو تدل عليها وإن كانت قاتمة.

6- رؤية الشاعر للقضايا القومية

************************

يعد الشعر العربي حافلًا برصد العديد من القضايا سواء أكانت قضايا تتعلق بأمتنا العربية، أو كانت تتعلق بالقضايا الإنسانية الأخرى، وهو ما قرره عبد الله الركيبي في قوله: ” …..وجدت إنتاج شعرائنا حافلًا بالموضوعات الكثيرة التي تتصل بالوطن العربي وقضاياه من قريب أو بعيد بل وتتصل بقضايا الإنسان العامة”(27).

وقد ارتأى عمر هزاع أنَّ على الشاعر أنْ يتناول من خلال تجربته الشعرية قضايا قومية إنسانية، فالمتغيرات الرديئة طالت كل شيء، فلم يعد ما يراه جميلًا كما هو، الأمر الذي جعله يسخر طاقاته الإبداعية لتناول القضايا الإنسانية، وهو يؤكد أن الشعر ليس مقصورًا على حدود اللذة الجمالية، ولكنه يجب أن يخدم قضايا الإنسان، ويهتم بالقضايا القومية فلم تضع الحرب أوزارها بعد بل قال الشاعر على لسانها؛

قالت:

سَتُقتَلُ مَرَّتَينِ..

وَرُبَّما..

قَد تُدمِنُ القَتلَ الأَضاحِي..

رُبَّما..

سَتُفَضُّ بِنتُ الشَّامِ..

مُورِسكِيَّةً..

وَالقُدسُ عاصِمةً لِمَن غَصَبَ الحِمى..

وَيُلَقِّنُ الحُكَّامُ شَعبًا أَعزَلًا دَرسًا..

بِهِ يَغدُو الغَبِيُّ مُعَلَّما..

وَسَيُصبِحُ القُرآنَ؛ بَعدَ هُنَيهَةٍ؛ مَرثِيَّةً لِلَّاطِمِينَ..

لِتَلطِما..

وَيَكُونُ رامي الشِّعرِ قاتِلَ نَفسِهِ..

وَقَصِيدَةٌ لِلنَّثرِ تَبرِي الأَسهُما..

وَيَطِنُّ في اللَّوحِ الذُّبابُ..

وَكُلُّ مَن يَحبُو عَلى القِيعانِ يَصعَدُ سُلَّما..

وَتَظَلُّ؛ وَحدَكَ؛ فِي الصَّحارى ظامِئًا..

وَيُنَعَّمُ الآتُونَ..

فِي ظِلٍّ..

وَمااا.. 

**********

يتابع الشاعر عمر هزاع رصد حالة الذات الشاعرة وموقفها إزاء التناقضات الهائلة التي يترع بها الواقع المرير من حوله، الأمر الذي يدفعه إلى الوقوع في فخاخ التشاؤم مكرهًا، نتيجة انسداد الأفق من حوله، والذي يتجسد تحديدًا في تلك الحمامة التي هدلت “فَأَتبَعَها الجَوادُ .. فَحَمحَما” الذي يصلح لأن يكون عدة حرب للإنسان المعذب أيضًا، وهي حالة تعبر عن قمة الأسى والتشاؤم من الواقع الذي يهدل فيه الحمام بدلًا من أن يكون رمز للسلام العالمي، تلك الحمامة التي سقطت لتقطع أوتار السلام بدل من أنْ تصدح بأعذب الألحان وتتغنى بالأمن والسلم والطمأنينة، فماذا تبقى من آدمية الإنسان؟!!! التي أصبحت لا تعادل شيئًا بل تكاد تتسم بعدم الوجود بعدما أخبرته الحرب بأنه سيقتل مرتين وربما ” تُدمِنُ القَتلَ الأَضاحِي” ثم بنت الشام تؤول إلى “مُورِسكِيَّةً..”

و مُورِسكِيَّةً التي أوردها الشاعر هنا نسبة إلى الموريسكيون وهم المسلمون الذين بقوا في الأندلس في شبه جزيرة أيبيريا تحت الحكم المسيحي بعد سقوط الحكم الإسلامي للأندلس وأجبروا على اعتناق المسيحية.

لقد بقي المسلمون في الأندلس أو الموريسكيون هؤلاء يقاومون الاضطهاد ما يزيد على القرن من الزمان، وعلى الرغم من كل وسائل العنف والإرهاب التي استعملتها السلطات ومحاكم التفتيش في تنصير الموريسكيين أو المسلمين الصغار، إلا أنهم استمروا في ممارسة شعائر دينهم بصورة سرية، فكانوا يؤدون فروض الصلاة سرًا في بيوتهم، وكانوا يصومون سرا، وكانوا يغلقون بيوتهم يوم الأحد حتى تعتقد السلطات الإسبانية ذهابهم إلى الكنيسة، وقد تؤول بنت الشام حسبما يرى الشاعر إلى هذا الوضع العصيب.

 ثم ماذا عن أولى القبلتين وثالث الحرمين القدس الشريف؟!! ” وَالقُدسُ عاصِمةً لِمَن غَصَبَ الحِمى.. “، وأما ولاة الأمر فهم يعظمون الجهل ويجعلون منه قيمة حقيقية للشعوب العُزَّل “وَيُلَقِّنُ الحُكَّامُ شَعبًا أَعزَلًا دَرسًا.. بِهِ يَغدُو الغَبِيُّ مُعَلَّما..” ينتشر الجهل ويصبح الكتاب المنزل مرثية “وَسَيُصبِحُ القُرآنَ؛ بَعدَ هُنَيهَةٍ؛ مَرثِيَّةً لِلَّاطِمِينَ.. لِتَلطِما..” ثم يعود بنا الشاعر من حيث بدأ إلى قضية الشعر وما آل إليه الواقع الثقافي “وَيَكُونُ رامي الشِّعرِ قاتِلَ نَفسِهِ..” بل ويعتلي المشهد المدعون ” وَكُلُّ مَن يَحبُو عَلى القِيعانِ يَصعَدُ سُلَّما..” وهكذا يرى الشاعر أن مسرى الشعراء تحفه المخاطر فهم “كُلَّما عَبَرُوا عَلَيهِ لِلعُرُوجِ؛ تَلَغَّما” 

وهنا يظهر الحدس الفلسفي  الشعري في قصيدة “ما بعد التأويل” عبر أجوبة عن أسئلة مضمرة، أو تقرير لواقع معاش، حسب رؤية الشاعر وثقافته، وفكره، بحيث تبدو الفلسفة شذرة فكرية تقول قولًا فصلًا، وترجح رأيًا آمن به الشاعر، وبذلك يصبح السطر الشعري، قولًا يأخذ شكل ما نسميه  في الأدب العربي شعر الحكمة، ولا يعتلي هذا المقام العليّ إلَّا شاعر في قمة النضج الفني لتجربته الإبداعية.

غير أنَّ ذلك لا يمنع أنْ يكون النص شعريًّا حدسًا فلسفيًّا بالأصل، وآية ذلك أن الشاعر عمر هزاع وهو يعيش التجربة الشعرية بوصفها كينونة، ونمط وجود يعيش الأرق الفلسفي عبر القلق الوجودي، فالموت والمصير والحزن والألم، والذات، والكون والبحث عن المعنى وكل أسئلة الوجود الكبرى تحضر في التجربة الشعرية فتخلق الحدس الفلسفي الشعري بعد أن يصل الشاعر إلى مرحلة النظرة إلى العالم والموقف من الوجود والعدم والذاتية.

***********************************

ونخلص إلى ما يلي:

*********** 

– إنَّ العنوان الذي أطلقه الشاعر عمر هزاع  ” ما.. بَعدَ التَّأوِيلِ..” وضع القارئ في دائرة الإغواء والإغراء وفتح أمامه سلسلة من التساؤلات تتصل برؤيا الشاعر وعلاقتها بفعل التلقي ليقف القارئ حائرًا متسائلًا ما هي رؤى الشاعر؟!!! ، وما هو تأويلها؟!!!، ثم ماذا يكون بعد التأويل ؟!!!

– وعادة ما تفعل تلك العناوين المراوغة بالقارئ الأفاعيل حيث إنَّها لا تسلم نفسها بسهولة إلى المتلقي ليجد نفسه مرغمًا على سبر أغوار النص للوقوف على تلك المفارقات علَّه يجد إجابة شافية لما طرحه خطاب العنوان من تساؤلات، وحسب رأينا “ما.. بَعدَ التَّأوِيلِ..” عنوانًا مشاكسًا وموقعًا استراتيجيًّا مهمه وفق فيه الشاعر إلى حد كبيرٍ.

– حسب رؤيتنا أنَّ مجمل الممكنات التأويلية القابلة للتجسيد من خلال القراءة المتعددة لهذا النص تقودنا إلى فرضيات أولى تم تكونها عن المعنى، فالشاعر حدثنا بصوت الراوي العليم بالأحداث في مادة الحكي وهو في حالة من اللا وعي ليرصد لنا تداعيات الحكم وحيثياته، والأسباب التي أودت بالفتى الدخول في هذا النفق المظلم، ورغم أنه يلقي باللائمة على الفتى كونه تكلم في زمن الصمت، كما كان الشمعة المذابة احتراقًا، الباثة للضوء هو على يقين تمامًا بأنَّ الفتى لم يخطأْ وأنه على الجادة وأنه المنوط به الحديث ونشر العلم والثقافات.

– لم يطمح الشاعر عمر هزاع في ” ما بعد التأويل” أن يكون لأشعاره تأثيرًا جماليًّا فحسب، بل امتدّ طموحه لما بعد ذلك ليتمّ مناقشة أمور أخرى فلسفية وجدانية، وفكرية، وثقافيّة، وتعدّتها إلى بؤر معرفيّة أبعد، ومسّت الواقع المعاش والأفكار الكبرى الجمعيّة وهو بذلك ينتقل من الخصوصية الذاتية التي يحاور فيها الشاعر ذاته إلى عموميات تهتم بقضايا الفكر القومية المعاصرة.

– وحسبما نرى أنَّه لا بدّ من أن يعيش الشّعر في الوجدان والعقل ليُحدث ذلك التأثير المطلوب، وهكذا يجب أن يكون مطمح الشّاعر، وهو ما يدفعه دائمًا إلى التّطوّر وإلى البحث عن أشكال وفعاليات جماليّة جديدة وتراكيب تحمل في طيَّاتها خصوصية ذاتية صادمة ومؤثّرة.

– لقد وضعنا الشاعر عمر هزاع أمام رؤيا عامة، ترصد واقع الأمة بين جهلٍ وصمتٍ وتقاعس عن قول الحق ونصرته وقلة ضمير، إنَّها عموميات نستشعرها في واقعنا المعاش، أما الموضوع فخاص، وهو كيفية صياغة الشاعر للواقع بأبجديته الخاصة،

وهذا يعني:  وحدة من وحدات المعنى في النص، وتبدو في وحدات: حسية أو علائقية أو زمنية مشهود بخصوصياتها عند الشاعر، هذه الوحدات هي المادة التي يبني عليها الشاعر إبداعه، وتبدو واضحة في البناء اللغوي والمفردات في النص، مما يستلزم آليات منهجية وثقافة موسوعية لسبر أغوارها حتى يصل المتلقي إلى ماوراء المعنى أو المضمون المسكوت عنه في النص الشعري.

– لقد ظل الشاعر عمر هزاع يناور المعني ويصارع اللغة مذ بداية قصيدة ” ما بعد التأويل ” في حوارٍ ثرٍ مع الذات فيجلدها أحيانًا وأخرى يفخر بها وثالثة يعول عليها للخلاص، إلى أن ورطَّ القاريء في سبر أغوار النص وعندما تمكن من ذلك وهو على يقين من أمره أخذ ينتقل من الحوارية الذاتية إلى القضايا القومية العامة فاستعرض بعض القضايا المهمة مثل جهل الأمة الذي جعلها في غيابات الظلام ثم كيف وصل الحال إلى الازدواجية فتتقمص الشيء لتظهر ضدَّه تتقمص العهر لتدعي الفضيلة وتدين بالكفر لتدعي الإسلام، فكان الشاعر هو الباث للضوء الذي ينثر العلم شذرًا ليطمس ظلام الليل الجهول ويأذن بفجر المعرفة أن يصول.

– وحسبما نرى أن التجربة الشاعرية لـ عمر هزاع  تدل على تحرر الشاعر من تجربته الذاتية المعاشة والانتقال إلى تجربته الوجودية الكلية، أو قل تتحول التجربة الوجودية الكلية إلى تجربة ذاتية، أي بمعنى آخر يعْبر الشاعر بالمتلقي في قصيدة “ما بعد التأويل” من نطاق الحوارية الذاتية إلى رحابة القضايا المعاصرة التي تؤرق الذات الشاعرة المعذبة والمهموم بحال الأمة ليرصد ويصف ويعالج في محاولة لعرض المشكلات حسب رؤيته وثقافته ومرجعياته الفكرية ريثما سنحت قريحته بذلك.

–  لقد كان المعنى الكلي في قصيدة “ما بعد التأويل” يختفي خلف المعنى الجمالي، والجمالي حين يظهر في المعنى يزيد من جمالية المعنى ومن معنى الجمال في آنٍ معًا، عندها لا يبقى الشعر عند حدود الميتا اللغوية بل ويتجاوزها إلى الميتافيزيقا  فيحلق بنا بجناحي الفلسفة والحكمة.

–  وفي تقديرنا لقصيدة “ما بعد التأويل” أنَّها دللت على أنَّ التجربة الشعرية للشاعر عمر هزاع وصلت مرحلة ما بعد النضج حيث كانت أكثر امتلاءً بالحدس الفلسفي، وقد وصل الإبداع الفني بها حد وقوف الشعر على ضفاف الحدث الفلسفي، وكذا يمكننا القول أنْ ليس هناك – في الشعر – انفصال بين الحدس الجمالي والحدس الفلسفي، والقرابة بين الشعر والفلسفة قرابة من الصعب فصلها.

–  لقد صور الشاعر عمر هزاع القضية الإنسانية من الأمد البعيد وربط بين الماضي والحاضر، فتعاقب الزمن وتواتر الأحداث، وتشابه القضايا، توشي دائمًا بأنَّ الأيام دول فجاء الأسطر الشعرية تحمل تصويرًا بليغًا قويًّا في اللفظ والمعنى، وتنم عن نفسية الشاعر وتعمقه في صلب الحياة البشرية وواقعها المرير وما عانته الذات الشاعرة من القسوة والألم والغربة.

– كما نرى أنَّ هناك اتجاهًا ذاتيًّا بالإضافة إلى الاتجاه الإنساني العام، إذ ظل الشاعر يبحث عن الذات القلقة الحائرة المضطربة التي تحمل همومًا كثيرة في الواقع المعاش، وهو ما يفجر قضية وجدانية تمسّ صميم الإنسانية، وهي البحث عن الأمان في عالم فقد الأمان، والبحث عن القيم في واقع انعدمت فيه القيم، والبحث عن الإنسان في واقع فقد الإنسانية.

****************************

الهومش والمراجع

************

 1 – راجع: أرسطو طاليس:  فن الشعر ، تر: عبد الرحمن بدوي: د ط، مكتبة النهضة المصرية ، القاهرة ، د ت ، ص 15 .

2 – راجع:  مصطفى عبده: المدخل إلى فلسفة الجمال –محاور نقدية تحليلية وتأصيلية- ، د.ط، مكتبة مديولي القاهرة ، ط2 ، 1999 ، ص 55.

3 – أرسطو طاليس:  فن الشعر ، مرجع سابق ، ص 17 .

4 –  راجع: سيد فاروق: المواقع الاستراتيجية ” على خارطة النص الإبداعي “، (د.ط)، المؤسسة العربية للعلوم والثقافة للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة ، مصر ، ط1، 2019م .

5 –  جميل حمداوي: سيميوطيقيا والعنونة، مجلة عالم الفكر،م(25 )،ع(3 )،يناير مارس 1997م، ص96.

6 – محمد فكري الجزار: العنوان وسيموطيقيا الاتصال الأدبي, الهيئة المصرية العامة للكتاب 1998م، ص45.

7 – د. بسام قطوس:سيمياء العنوان، وزارة الثقافة, عمان-الأردن, ط1, 2001م، ص7.

8 – عبدالرحمن ابو علي: مع امبرتو ايكو، مجلة نزوى، العدد14, 1998م.

9 – محمود عبد الوهاب: ثريا النص-مدخل لدراسة العنوان القصصي- الموسوعة الصغيرة (396)، دار الشؤون الثقافية العامة بغداد،1995م، ص 9

10 – المرجع السابق، ن ص .

1  – راجع: محمد فكري الجزار: العنوان وسيموطيقيا الاتصال الأدبي, الهيئة المصرية العامة للكتاب 1998م، ص 31.

12 – ابن منظور: لسان العرب، ، تح: عبد الله علي الكبير وآخرون: دار المعارف، القاهرة، ط3، د ت، ج3، ص979.

13- فاتح علاق: مفهوم الشعر عند رواد الشعر الحر، ، دار التنوير، الجزائر، ط1، 2010م، ص141.

14- الحَثِيثُ : السريعُ الجادُّ في أمره. وفي محكم التنزيل: (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا ) سورة الأعراف آية  54 ، ويقال: وَلَّى حَثِيثًا: أي مُسْرِعاً حريصًا، والجمع: حِثَاثٌ.

15- محمد خرمااش: فعل القراءة وإشكالية التلقي، مجلة علامات، ع. 100، س. 1998، ص54.

16- معجم المعاني الجامع: تعريف و معنى فتى في معجم المعاني الجامع – معجم عربي عربي.

https://www.almaany.com/ar/dict/ar-ar/%D9%81%D8%AA%D9%89

17 – سعيد بنكراد: السميوزيس والقراءة والتأويل، مجلة علامات، ع. 10/1988، ص 43.

18 – راجع: فاتح علاق: مفهوم الشعر عند رواد الشعر الحر، ، دار التنوير، الجزائر، ط1، 2010م، ص141.

19 – راجع: د. غالي شكري: شعرنا الحديث إلى أين ؟، د ط، دار المعارف، القاهرة، 1986م، ص 74.

20 – راجع: البصيرة والفراسة، على موقع منارة الإسلام، http://www.islambeacon.com/  ومنها وقوله تعالى{ أدعو إ?

حاء  و  باء ..للشاعرة السورية باسمة العوام

حاء الحبّ في حروفي دفنتها ..

والحبّ لا يحلو دون التّلاقي

وأشدُّ ماتلقى الباء من النّوى ..

بُعد الحبيب وتلاشي الأشواق

ناشدته لمّا دنا ، وكلامه ..

تشكو منه دموعُ الأحداق

رفقاً بقلبي بين خفق فؤادك ..

القاسي ، أصبح مشدود الوثاق

ارحل وسافر  عن سكون روحي ..

يادنيتي الحلوة بقطار فراق .

دراسة في مقومات التشكيل السردي..  توظيف الحيوان في قصص جاسم محمد صالح الموجهة للطفل..للدكتور أ.د. محمد عويد الساير / كلية التربية الاساسية/ جامعة الانبار

اعداد: ساهرة رشيد

قال ا.د.محمد عويد الساير في مقدمة الدراسة يبحث الطفل عن مشاعره داخل جسد قصصه،من خلال

 الطيور الجميلة، والفراشات الملوّنة والحيوانات التي تَأتي إِليه  من وجهة السرد الداخلية من الطيور والحشرات … وغيرها،  ويستلهم القارئ أي قارئ كان مضامين الأهداف والعبر من حكايات من مجرد العنوان في قصته هذه أو في مجموعته القصصية تلك حين يكون أحد الحيوانات ورسمها ودلالته في قصته.

 إِنه  المبدع جاسم محمد صالح الذي كُتبت عنه قصصه المصورة وغير المصورة للأطفال الكثير الكثير من الدراسات والأبحاث والمقالات وأديب الأطفال جاسم محمد صالح له أكثر من مجموعة قصصية واحدة في هذا الأدب.

وعرف الساير  أدب الطفل بأنه ضرب من الأدب  ربما يكون وحتماً سيكون صعباً وقاسياً على بعض الأدباء حين يفكرون في الكتابة فيه، وذلك لأسباب كثيرة منها صعوبة إِدراك الطفل لبعض القصص وعناوينها والوصول إلى أهدافها بالشكل الميسّر المباشر كما هو في أدب الكبار. ومنه اختيار المضامين والأفكار المناسبة التي يروم الكاتب أدب الأطفال إيصالها إلى الطفل، هذا فضلاً عن اللغة التي يجب ان تنماز بالسهولة والسلاسة والبساطة في العرض والتقديم من حياة الطفل، وحسن اختيار الصور التي ترافق اللغة والأساليب في تقديم الأهداف التي يريدها كاتب قصة الطفل… وما إلى ذلك.

كما بين مواصفات

 أديب الطفولة وما يجب أن تتوافر فيه وإلا لن يكون النجاح حليفه فيما يكتب ويقصُّ على الأطفال. ولعلّ من تلكم المواصفات، كثرة الاطلاع على الموروث الثقافي الأدبي عند العرب ولاسيما في تاريخهم القديم وأساطيرهم وخرافاتهم وأدبهم وتوظيف هذه الموروث بالشكل المناسب في بنية القصة الموجهة للطفل.

وأن يكون أنيقاً في نفسه وفي كتاباته باختياره المناسب من الألفاظ والتعابير في شكل القصة، ومن ثمّ المزحة البريئة والخيال المبسط الذي يجب أن يكون دائماً في قصص الأطفال وفي وكد كاتب قصصهم هذه لاستمالة مشاعر الطفل وعواطفه نحو القصة ولاسيما مع توظيف عناصر الحيوان والطبيعة بمظاهرها المختلفة في جسد هذه القصص، لتكون مؤثّرة تأثيراً كبيراً وباقياً في نفس الطفل ومشاعره منذ أول القراءة وإلى مراحل عمره المختلفة صعوداً ونموّاً.

هذا فضلاً عن الأهداف والمضامين وهي في أغلبها التربوية والتعليمية في جسد القصص الموجهة للطفل، وهنا على كاتب أدب الطفل في عصرنا الراهن أن يحسن إحساناً كبيراً في اختيار مثل هذه المضامين والأهداف وأن تكون من رحم الواقع المعيش،  وتؤدي إلى تقويم الفرد وتربية المجتمع التربية الصحيحة المثلى في الأخلاق والقيم الإيجابية والكثير من الآداب التي نسعى إلى امتلاكها وامتلاك أطفالنا لها.

والحيوان سمير أو صديق  الإنسان ورفيق دربه الطويل في هذه الدنيا في الحلّ والترحال، في اليسر وفي العسر، وفي الخير وفي الشر، تواترت النصوص الأدبية الكثيرة والمهمة منذ الشعر العربي في العصر الجاهلي إلى يومنا هذا على  أهمية الحيوان في حياة الإنسان وإنه لا يستطيع العيش بدونه في البر أو في البحر  في السفر أو في الثبوت، في البيت أو في الطريق أو في أماكن العمل.

وجاءت الدراسات الأدبية والنقدية الكثيرة التي تناولت أثر الحيوان في حياة الإنسان الشاعر وغيره منذ العصر الجاهلي، فجاء ذكر الحصان والفرس والناقة والثور والحمار الوحشي والكلاب والزواحف والطيور في أغلب النصوص الشعرية وحتى في النصوص السردية القصصية وغيرها، لتؤكد وتبيّن أهمية الحيوان في حياة الإنسان وأثر هذه الأهمية في حياته ومن ثمّ في أعماله واختراعاته والنصوص الأدبية الإبداعية التي تعدُّ الوثيقة الأولى والمشاعر الخالصة لهذا الأديب أو ذاك حين يستنطق وظائف الحيوان ويأتي بما في نصه الأدبي الإبداعي في لوحة شعرية أو مشهد قصصي أو في عتبة العنوان أو في خاتمة النص الأدبي الشعري وغير الشعري.

في قصص القاص وكاتب الطفل جاسم محمد صالح في المجموعات القصصية وبعض القصص المنفردة التي أهداها إلي. رأيت توظيفاً كبيراً ومهماً للحيوان بأنواعه في هذه القصص- وهو يستثير الطفل وينمي عاطفته بهذا التوظيف المثالي الذي جاءت عتبة العنوان الأولى في قصصه، أو في جسد البنية القصصية لأية قصة كتبها للطفل في مراحل عمره المختلفة.

إذا ما تكلّمنا عن العنوان العتبة الرئيسة الأولى للنص الأدبي، والمفتاح الأولى الذي يلقي به المبدع للقارئ ويضعه في يده ليكشف بعدها أغوار النص ودلالاته وأهدافه ولاسيما في قصص الأطفال وماهيته. مشيرا إلى  بعض العناوين في مجموعات جاسم محمد صالح القصصية التي تستأثر بالحيوان وتوظّفه ليكون النقطة المباشرة للتأثير والإهتمام في نفس الطفل ومشاعره.

ولنأخذ مثالاً على ذلك الدرس والنقد والتحليل، فذلك من مسلمات العمل النقدي ومما يسعى إليه مقالنا النقدي هذا ومن حق الكاتب والطفل أيضاً.

في مجموعته البطة البيضاء، نرى أن عنوان المجموعة في توظيف الحيوان من أول وهلة في عتبة العنوان هذه. واللون الأبيض يميز هذه البطة علماً أن أغلب البط هو من ذي اللون الأبيض تأكيداً في الدلالة على النقاء والصفاء وفسحة الأمل.

إذن من دلالات هذه الحيوان في توظيف الحيوان واللون يكمن في الآتي:

الحيوان← الطير← البطة ←البياض  تراكمية العناوين في توظيف الحيوان.                                                                   دلالة الأمل والتفاؤل.

            سعة الخيال وبساطته في اختيار العنوان.

عزيز القارئ لمقالي ولأدب الأطفال ولاسيما في القصص القصيرة الموجهة للطفل في كل مكان وفي أي زمن عند الأستاذ القاص وأديب الطفولة جاسم محمد صالح.

والمثل السابق من   التفاصيل هو لحفظ التشكيل السابق لكي بين للقارئ  ما أرد  الوصول إليه، من خلال الخطاطات الآتية:

تراكمية العنوان في توظيف الحيوان، مجيء عناوين لقصص أخرى داخل هذه المجموعة القصصية في توظيف الحيوان، ومنها : الحمار الذي رحب عملاً.                                                                                       الحمار الرمادي.

                                الخفاش الذي يرى.                                           قفزة الضفدع.

فضلاً عن عنوان المجموعة المركزي والأول، وهو البطة البيضاء.

في دلالة التفاؤل والألم وجدت العناوين للقصص الآتية في توظيف الحيوان بأنواعها وصفاته في المجموعة القصصية (البطة البيضاء) عند القاص جاسم محمد صالح:

دلالة التفاؤل والأمل    الحمار الذي وجد عملاً.

 الحمار الرمادي.

  الخفاش الذي يرى.

قفزة الضفدعة،

وأما عن سعة الخيال وبساطته في آن معاً عند القاص جاسم محمد صالح في مجموعته القصصية هذه، فكان مع العنوان المركزي الأول (البطة البيضاء)، وكان مع بعض العناوين الأخرى التي لامست توظيفاً ملماً للحيوان غير مباشر إلّا إنه من الأهمية بمكان وتخصص من مثل  عناوين قصصه :                                              الأرض التي توقفت عن الدوران.

السماء تمطر ذهباً.

الشمس والطيور.

مدرسة الغابة.

في مجموعة قصصية أخرى موجهة للطفل.

ولناخذ مجموعة أخرى وهي (الحصان الأبيض)، وهنا سطوة الحيوان، الحصان وقوته وشهرته أكثر بكثير من البطة فشهرتها وقوتها وسطوتها المعرفية والوراثية والثقافية والأدبية والتاريخية.

وهذا العنوان انفتح الى عناوين فرعية أخرى استثمر القاص جاسم محمد صالح الحيوان استثماراً غير مسبوق في توظيف وتوصيف مهمين لعنوان القصة وجسدها وبنيتها ومضامينها وأهدافها. وهذه العناوين دلّت كلّها على الحركة والحياة وبث الروح حتى مع شعرية الأشياء الجمادات، وهذا من أثر توظيف الحيوان (الحصان) وحركته وحيويته وقوته وسرعته، كذلك الأمل والتفاؤل بهاته الحركات وهذه الحياة المفعمة بالحيوية والنشاط وهذا من دلالات الأبيض وخصائصه الفيزيائية، ولاسيما مع الحصان الذي جاء بتضاد محبب إذن أغلب ألوان الحصان هو الأسود أو الأسود الذي يميل إلى الاحمرار كما يعلم الجميع ويشاهدها الجميع ويعرفه الجميع.

هذه الدلالات والوظائف لعنوان المجموعة الأولى وعتبتها المركزية الأولى كانت في الآتي: عنوان مركزي← الحيوان← السرعة والقوة والحركة

عناوين  قصصية فرعية

قصة الطيور    قصة القطار  قصة الشاحنة الكبيرة

                              عنوان مركزي← الأبيض ←التفاؤل والأمل بهاته الحيوية

عناوين قصصية فرعية

قصة العم جابر  قصة الأرض الطيبة     قصة الفرح الأخضر

هنا وضحت -والله أعلم- الدلالات من استنطاق الحيوان الحصان، مع دلالات اللون ولاسيما هذا اللون المحبب الذي يدلّ على الصفاء دائماً والنقاء دائماً والأمل دائماً. أيان العنوان عن الحركة والحياة لصفاء وأمل وحب للعمل والمستقبل، بمضامين تربوية تثقيفية.

ورجا  أ.د. محمد عويد الساير

 أولياء امور الاطفال والأطفال أنفسهم أن يتابعوا هذه القصص بشغف القراءة والمتعة العلمية والتربوية

لهذه القصص ويتبنوا أفكارها وأهدافها والدعاء لمن كتبها ونشرها وصوّرها.

في المجموعة القصصية الأخرى من المجموعات القصصية الكثيرة الموجهة لأدب الطفولة.

 منها  الأولى بـــ : (مجموعة السمكة الملونة)، وهنا تفرّعت المجموعة إلى أحاديث الغدر من الآخر العدو وهو الإنسان أو المكان أو الزمن… أحياناً. قراءته لهذه المجموعة رسمت في باله خيالاً واسعاً لتصوّر هذا العداء للحيوان حتى مع مظاهر الطبيعة الفلكية التي جاءت في عناوين بعض هذه المجموعة وفي جسدها المكاني في ما ترمي إليه من أهداف ومضمون.

ويوظفها الاديب جاسم محمد صالح بعضاً من قصصه داخل مجموعته القصصية هذه الحيوان الطيور ليصل بالطفل إلى آفاق رحية من الدلالات ويوسّع من مداركه الذهنية بغية الهدف والمضمون من كل قصة فطف فيها هذه الطيور مع شعرية الأشياء أو مع أحاديث الإنسان والزمن، ومن تلكم العناوين الفرعية التي جاءت في عناوين هذه المجموعة القصصية:

(قصة الشجرة والطيور، قصة حديث الطيور، القفرة الطائشة (الكنغر)). وأما في مجموعته القصصية الأخرى التي وضع لها القاص جاسم محمد صالح عنواناً يستوظف فيها العصافير المقاتلة ودفاعها من خلالها العناوين الفرعية عن الوطن والحيوان فجاء العنوان الرئيس (العصافير تقاتل) لينفخ على دلالات عدة منها -وكما هو بان من العناوين الفرعية- :

-البطولة الخالدة.

-الدورية الشجاعة.

-الفدائي الصغير.

-أما أين وطني؟

-الأشجار تورق من جديد.

هذه العناوين كلّها تدل على المقاتلة في سبيل العيش ورسم الحياة الرغيدة الهانئة في أقسى الظروف ولاسيما مع الظروف التي يمرّ الطفل العراقي المعاصر، وهنا تأتي المضامين والأهداف بشكل مغاير عن المجموعات القصصية الأخرى في أدب الأطفال عند جاسم محمد صالح في القتال من أجل الحياة، والقتال من أجل الوطن، والقتال من أجل لقمة العيش مثل هذا الطفل مثل هذه العصافير وقتالها وصبرها من أجل الحياة.

كانت السطور السابقة في دراسة ماهية العنوان ووظيفته ودلالاته التراكمية المحببة في توظيف الحيوان وصفاته عند القاص جاسم محمد صالح ، وهو توظيف لطيف وكبير ومنوّع وفق إليه القاص في طرح المضمون والهدف من كل قصة أرادها وكتبها فيها واختار لها مثل هذي العناوين لمجموعته برمتها، أو لعناوين الفرعية الداخلية في كل مجموعة.

وأَمّا عن بنية القصة وجسدها المكاني، اقتطف نماذج للتحليل والنقد والتعليق لنرى كم مات تأثير الميدان كبير وتوظيفه وتوصيفه عريضاً عند القاص وما يكتب وما يريد من هذا التوظيف، وإليك مثلاً قصته (الحصان الأبيض)، إِذ تنفتح هذه القصة في افتتاحيتها على وصف هذا الحصان بمشهد القاص:

(نظر المروض العجوز إلى الحصان الأبيض الجديد فهو جميل وعيناه واسعتان فاقترب منه وأخذ يتلمس خصلات شعره الناعمة).

الوصف آلية من آليات السرد يستثمر القاص لوصف هذا الحيوان من أول مفتتح قصته، ومن ثَمّ إلى الأطفال، في مشهد سردي آخر يقول فيه:

(تساءل الأطفال عن سرّ اهتمام المروض العجوز بهذا الحصان الأبيض الجديد ولكن لا أحد يدري؟!).

الدهشة والاستغراب من العناية بهذا الحصان عند الطفل، إنه سابق الحلية ومفرّع الحيوانات الأخرى في السيرك مكان العمل عنصر السرد الذي يظهر في مشاهد سردية أخرى من مشاهد القصة هذه.

وأما الهدف والمضمون من القصة هذه فهو فرحة الأطفال وبهجتهم بحركات هذا الحصان في ذلكم السيرك يقول القاص:

(بعد أيام من التمارين المتواصلة تمكن الحصان الأبيض من أن يؤدي أَصعب الحركات وأجملها لدى الأطفال والتي تدخل الفرحة والبهجة إلى نفوسهم).

هنا كمن هدف القصة وهدف توظيف الحيوان فيها أفضل توظيف وأتمّه وهو الراحة النفسية لعمل هذا الحصان الأبيض داخل السيرك، والبهجة والأمل والفرح الغامر حين يرون حركاته وما يقوم به مع المروّض العجوز من أجل وسم هذه الفرحة، وهذا ما جعل خاتمة النص تواكب هذه الفرحة وتكافأ العجوز وحصانه على ما قاما به، وذلك ما يظهر في خاتمة القصة حين يقول فيها القاص:

(في حفل افتتاح  عروض السيرك قدّم الحصان الأبيض مع مروضه العجوز أجمل العروض التي جعلت الأطفال يصفقون إِعجاباً حتى أصبح الأطفال لا يحبون من عروض السيرك إلّا فقرة الحصان الأبيض مع مروضه العجوز.

قرر مدير السيرك أن يبدل اسم السيرك إلى سيرك الحصان الأبيض الجميل وكافأ المروّض العجوز بأن يستمر في عمله في السيرك ولم يفكر أبداً بالاستغناء عنه).

وعن قصته (السمكة الملوّنة) يستثير القاص والكاتب جاسم محمد صالح مشاعر الأم في كل مخلوق من خلال هذه السمكة التي أبقى على صفاتها (الملونة) فقط. مشاعر الأم هذه هي المشاعر نفسها عند الإنسان والحيوان والطير والشجر (أممٌ أمثالكم). هذه السمكة يوظّفها القاص جاسم توظيفاً مثالياً لخوف الأم على صغارها في الماء من أي عدوّ كان، فهو يقصّ علينا هذا الخوف المشروع الحقيقي في مفتتح القصة:

(قالت السمكة لصغارها:

-احذروا أن تضعوا في فمكم شيئاً لا تعرفونه).

الحذر الواجب ولاسيما مع الصغار من الأطفال مع أي مخلوق، ومشاعر الأم المتعبة التي أنجبت وصبرت ونصبت.

أما عن السمكة الصغيرة مع الطفل الصغير، فيبدو أنها كانت بعيدة عن النصيحة وكثيراً ما خالفت هذه النصائح. إذن وظيفة أخرى من وظائف الحيوان الأم الصغيرة، ومضمون  هذا التوظيف وهدفها هو السماع لكلام الكبار ولاسيما الأم والأخذ بنصائحها وارشاداتها مهما كانت وكيفما كانت حتى مع الزجر والروع فإنها هي لصالحنا وخوفاً علينا وحرصاً علينا وحرصاً منها على حياتنا.

يقول القاص في مشهد سردي آخر عند مخالفة هذه الصغيرة لنصائح أمها:

(سمع الصغار كلامها وأخذوا به إلّا السمكة الصغيرة فإنها كثيراً ما كانت تخالف نصائح أمها ولكن ذات يوم بالقرب من شاطئ النهر رأت السمكة الصغيرة دودة مغروسة في قطعة حديدية مدببة، وهناك خيط رفيع يخرج منها إلى الأعلى، ضحكت السمكة الصغيرة وهي تتصور أن ما تراه لعبة جميلة أو شيئاً آخر، فسبحت بهدوء نحوه وبقيت فترة تداعبه ولكن راودتها فكرة في أن تضعه في فمها).

هنا يكمن الحدث وقمة الحبكة قي القصة الموجهة لأدب الطفل عند القاص جاسم محمد صالح في قصته هذه، وهذا ما يشعرنا ويشعرنا أطفالنا بخوف كبير من العدو وما يصنعه وما يريد الوصول إليه بعدما تخلّت هذه السمكة الصغيرة عن نصائح أمها وخالفت أخواتها الأسماك بضرب نصائح الأم عرض الحائط؟! فما الذي حدث لها…؟!

(فجاءة شعرت السمكة الصغيرة بوخزة وجرح تسيل منه الدماء وشاهدت الخيط وهو يُسحب بهدوء إلى الأعلى وبدأ يؤلمها فعرفت بأن الشيء الذي انغرس في فمها هو (الشص) الذي حذرته أمها من الاقتراب إليه…

لذلك أخذت تصارع ألمها وتصيح بأعلى صوتها:

-النجدة.. النجدة.. النجدة.. ).

وهنا تأتي الأم مسرعة متعاونة مع بقية أسماك جلدتها لتنجد سمكتها الصغيرة هذه، يقول القاص في المشهد السردي الختامي الأخير من قصته هذه:

(سمعت الأم صراخها وجاءت لتنجدها وتعاونت مع بقية الأسماك في قطع وإخراج (الشص) من فمها.

شكرت السمكة أمها واعتذرت عن فعلها وأقسمت أن لا تخالف كلامها بعد اليوم).

هنا وضح كل شيء في جسد القصة عناصرها ←الشخوص          السمكة الأم.

        السمكة الصغيرة.

         باقي الأسماك.

المكان ←النهر← الماء .

الحدث ←ضياع هذه السمكة إِلّا قليلاً…

آليات السرد في جسد القصة← الوصف  السمكة الكبيرة والصغيرة .                                                                             الشص العداء

الحوار  حوار الأم مع الأسماك.

حوار الأم مع السمكة الصغيرة.

حوار السمكة الصغيرة مع الأم.

وبقي توظيف الحيوان واستثمار مدلولاته هو الأم عند القاص  وهو ما أردنا البحث عنه في مقالنا  هذا دراسة ونقداً واختياراً في العنوان والبنية.

وأما في قصته التي وسمها بــ: (حديث الطيور) يوظّف القاص جاسم محمد صالح الحيوان الطير توظيفاً جمالياً من خلال اللون ومن خلال الصوت، ولو أن هذا التوظيف لا يخلو من رقة ضدية بين هذه الألوان التي يكتسيها هذا الحيوان الطير بأصنافه المختلفة والفرق يتضح جلياً لون البلبل وجماليته وبين لون الغراب وقبحه.

وليس الألوان فحسب وإنما في الأصوات أيضاً بين هديل الحمام ونعيب الغراب. وهذا ما يريده القاص من هذه الضديات بين الألوان والأصوات كلّا على حدّة.

وأما الحديث فكان مستمراً لعناصر السرد في الشخوص الطيور، وفي المكان وفي الزمن وفي الحديث.

وأما الآليات فكمنت في الحديث أصلاً  الحوار المباشر.

 السرد المباشر . الحديث الذاتي السردي.

الحوار الداخلي .

ولكن في الوصف أيضاً  وصف  الطيور               البلبل. الحمامة.وصف الحديث  الغراب.

وصف المكان  الغابة.

الأشجار.الغصن.

حركة الطيور وأصواتها.

وفي اعتقادي وضح لكل شيء من القصة من عناصر السرد  وآلياته، ولم يتبقَ لي إلّا عن أحدّث قارئي عن هدف هذه القصة ومضمونها فهو معرفة أصناف الطيور وأنواعها والمقرّب المحبب إلى الإنسان من خلال اللون والصوت.

ومعرفة المعادي البغيض المكروه لأصناف الطيور وأنواعها، وبغض الإنسان من خلال اللون والصوت أيضاً.

ولتستمع إلى حديث الطيور عند القاص جاسم محمد صالح، وإلى جسد قصته هذه التي يقول في بنيتها المكانية:

(على أغصان إحدى الأشجار، حطّت بعض الطيور…

تحرّك البلبل الملون في مكانه وبعد أن تمرّد كثيراً قال: أنا أسعد الآخرين بصوتي الجميل.

هنا هدلت الحمامة وقالت مزحة: أما أنا… فالأطفال يحبون هديلي وهم يستمعون إليه بفرح.

زقزقت العصفورة الصغيرة وهي تقفز من غصن إلى غصن آخر قائلة: الصغار يحبون زقزقتي… ودائماً يقلدون صوتي حينما يلعبون.

….

هنا جاء دور الغراب في الكلام، فالجميع قد تكلّموا.. تلفّت يميناً وشمالاً علّه يقول شيئاً… ولما لم يجد شيئاً يقوله.. انتفض من مكانه طائراً وهو ينعب بصوت قبيحٍ قاق قاق قاق

فزعت الطيور من صوته وفرت هاربة إلى أوكارها…. ).

لم يكن هذا كل شيء عن توظيف الحيوان في قصص القاص والأديب والاديب  المميز جاسم محمد صالح في بنية القصة وجسدها المكاني، وبين عناصرها وآليات السرد فيها، وإنما كان ما سمح به المقال وما جاءت به النفس بعد فرحها بنتاج هذا الأديب وتخصصه الأدبي المُثقف، وللإخوة من دارسين وباحثين ونقاد في أدبنا العربي المعاصر أن يحاوروا نصوصه الموَظّفة للحيوان ويأتون عليها بدراسات ودراسات من جوانب عدة فهي والله تستحق وفيها من الأفكار المنهجية العلمية البحثية ما يسع الجميع.