الدكتور عادل عامر يكتب عن : واقع التقييم والتقويم في النظم التربوية العربية ومشكلاتهما

إن تطوير التقويم ضرورة بقاء؛ فالتقويم هو أحد عناصر المنظومة التعليمية، والموجه الرئيس لنموِّها وتطويرها، والمشخِّص لمواطن القوة ونواحي القصور بها؛ لما يوفِّره من المعلومات والبيانات التي تعتمد عليها عمليات التغذية الراجعة؛ إصلاحًا وتطويرًا لمَواطن القوة، وعلاجًا لنواحي القصور، وشمولاً لكل عناصرها،

 من حيث الأهدافُ العامة، ومدى ارتباطها بأهداف المجتمع واحتياجاته، والمناهج المدرسية، وأدوات التدريس المختلفة، والأنشطة التربوية، والمعلم وكفايته، إلى غير ذلك من مكونات المنظومة التربوية؛ لذا فإننا بحاجة إلى تقويم يهدفُ إلى التحقق من مدى اكتسابِ المعارف والمعلوماتِ والمهارات، وكيفية نمائها في الحياة اليومية (المقاربة الوظيفية، والمواقف الحياتية).

إن نجاح التقويم التربوي رهينٌ بإدماج ناجحٍ وفعَّال لما يُسمَّى ببيداغوجيا التحكم (Pédagogie de maîtrise)، وتنطلق هذه البيداغوجيا من مبدأ مُفاده: أن التلميذ لا ينتقل من وحدة ديداكتيكية/ تعليمية إلى أخرى إلا عندما يتحكَّمُ في الكفايات الأساسية للوحدة الأولى، والانتقال من مستوًى إلى مستوًى أعلى، يستلزم التحكم في الكفايات الأساسية والضرورية؛ لمسايرة الدراسة في المستوى الأعلى.

التقدم في عالم اليوم مرتهن بعوامل حيوية عديدة يأتي في مقدمتها التعليم لتعظيم العائد وتحقيق الأهداف المنشودة ،وخفض نسبة الهدر في الوقت والجهد والمال إلى أقل قدر ممكن إن التعليم قاطرة التطوير والتنوير إنه يقود المجتمع بالفكر والمعرفة لتحقيق التنمية والتقدم على أسس علمية. إن من اكبر السلبيات التي رسخت في أفعالنا هي الصمت على الكثير من الأوضاع والممارسات المهدرة للوقت، والتي ترجع إلى الاستسلام لطغيان بعض الأعراف الخاطئة التي توارثناها، وهي أعراف تتعدد أشكالها وصورها وتترسخ في حياتنا الثقافية والاجتماعية،

 الأمر الذي يؤدي تعطيل مسيرة التطوير والتغيير للانتقال من قرن قائم إلى قرن قادم ولا يزال الطلب على التعليم يزداد، لا من اجل التعليم والتثقيف بل في سبيل الحصول على الشهادة والأوراق الثبوتية، التي تسمح للمتمدرسين بالارتقاء الاقتصادي والاجتماعي، ومثل هذا الطلب على التعليم أدى إلى ما يعرف بالتعليم للامتحانات والشهادات وليس للحياة حيث تفرغ التعليم من مضمونه وجدواه.

ولقد وقعت الجامعات تحت ضغط إقبال الطلاب على التعليم بوجه عام، والرغبة في الالتحاق بالتعليم الجامعي بوجه خاص ،وجاء للجامعات أعداد كبيرة من الطلاب المتميزين وغير المتميزين مما أحدث انخفاضا ملحوظا في بعض الأحيان في مستويات التعليم الجامعي نتيجة لنقص نصيب الطلاب من الخدمات التعليمية أو أوجه النشاط الديداكتيكي من طرف الأستاذ الجامعي مما انعكس سلبا في مستويات التقويم الجامعي. إن إسهام عضو هيئة التدريس في خدمة الجامعة والمجتمع عنصر من عناصر الثلاث المهمة في تقويم عضو هيئة التدريس تكليفا أو تطوعا من خدمات في مجال اختصاصه أو حسب إمكاناته وخبراته بما يسهم في بناء وتطوير ورقي المجتمع المهني الذي تنتمي إليه. وهناك نظام الجوائز التقديرية للتدريس المتميز لتكريم المتميزين بالتدريس، الذي يهدف التعبير عن تقدير الجامعة لمستوى الأداء التدريسي للفائزين واعتراف الجامعة بفضلهم في تأهيل الطلاب تأهيلا متقدما، وإذكاء حب التعلم والمعرفة والبحث وغرس القيم المهنية والاجتماعية والأخلاقية فيهم.

إن التقويم الفعال لا يكون إلا بتوافر المعايير المحددة الواضحة، وإنه يلزم أن تكون هناك أنشطة وفعاليات محددة ومعقولة، وكذلك نظام مستمر من إرشاد الأداء بين رئيس القسم وأعضاء هيئة التدريس بفاعلية منتظمة، وفي هذا الإطار يمسي التقويم بمثابة تقرير عن أداء عضو هيئة التدريس.

إن تقويم نوعية الأداء يتم في ضوء وجهات النظر والقيم والمدركات الحسية لمن شهدوا الأداء بالفعل، ويفضل أن تأتي نوعية الأداء في كلمات وفقرات، تحدد لها أرقام حتى يمكن معالجتها رياضيا لأغراض استخلاص رقم نهائي يفترض أن يمثل التقويم الكلى لعضو هيئة التدريس، وهذا الرقم النهائي يمكن أن يحول إلى كلمات وفقرات تصف نوعية الأداء الكلي.

إن الرقم مهما تكن درجة تعقيد العملية الرياضية التي أدت إليه لا يزال في حقيقته يمثل مجموعة من الأحكام البشرية. وعلى أي حال فإن محاولة إعطاء تقدير كمي لنوعية أداء عضو هيئة التدريس تجبر المقوم على أن يفحص بعناية أكبر جميع أوجه الحياة المهنية لعضو هيئة التدريس، وإن إعطاء التقدير الكمي يسهل عملية مقارنة أعضاء هيئة التدريس من حيث أدائهم إسهاماتهم

إن التقويم الذي لا تقوده مبادئ التصميم السليم لعملية التقويم يمس حساسا لنواحي الغموض وتعقيدات الدور المهني، وسلبية التقويم غير المتواصلة تحجب وتخفي الوظيفة المبدعة للأداء الشامل، لكن المعاينة المنظمة للأداء الشامل توفر سياقا حافزا للربط بين الأهداف والتطلعات المهنية والأهداف الفردية.

يجب أن يكون التقويم من أجل التحسين، أي أن يكون نفعيا وأن ارتباط التقويم بالتدريب هو بدوره أكثر أهمية إذا ما أريد للتقويم أن يكون فعالا في إحداث التغيير. كما أن التقويم لا يكون صادقا إلا إذا درب القائمون بالتقويم على مهامهم، ولا يدعي أحد أن خطط التقويم شاملة لأنها مكلفة ماليا.

إنه ليس هناك ما يدل على أن نماذج التقويم المختلفة تنتهي إلى النتائج نفسها لدى محاولة تقويم الأداء نفسه، ولذلك فإن التنافس لا يزال مستمرا بشأن ملائمة كل نموذج، وكذالك حول نواحي قصوره ومزاياه. بيد أن النموذج التكويني في التقويم هو الملائم عندما يكون تطوير عضو هيئة التدريس هو الغرض الرئيسي، وباستخدام هذا المنحنى يكون أعضاء هيئة التدريس مساهمين فاعلين في تصميم واستمرارية جمع المعلومات التي ستستخدم في التحقق من الهدف. كما أن التقويم التجميعي يناسب تقويم أداء عضو هيئة التدريس، حيث تقوم الإدارة والعاملون بوضع الأهداف والاتفاق على ما يشكل الدليل على الإنجاز. وهذه الإنجازات المعيارية يتفق عليها سنويا، حتى وإن وضعت لمدد أطول، وهنا يكون أعضاء هيئات التدريس والإداريون مشاركين في عملية التقويم التجميعي لعضو هيئة التدريس. مما سبق يتضح لنا أننا أمام إشكالية عويصة ومعقدة، تتعلق بطريقة تقويم تعلُّمِ المتعلم لتحقيق العدالة التقويمية، فالتقويم ليس عملية يسيرة وجزئية، تقوم على اختبار ذكاء المتعلم، بل هي عملية منظوميه ومتكاملة وشاملة واستمرارية؛ تقيس جوانب متعددة في شخصية المتعلم (المعرفية، والمهارية، والوجدانية، والمواقفية، والحياتية، والاجتماعية…)، وتحدد المعايير والمؤشرات بدقة حتى نتمكن – على ضوئها – من الحكم على نواتج التعلم بشمولية، مع الاهتمام بإعداد الأدوات والمقاييس التي ستُستخدم في تقدير وتقويم التعلم.

والجامعة في سبيل وظيفة التدريس الجامعي تسعى لتنمية وتطوير قدرات ومهارات وكفايات أعضاء هيئات التدريس من خلال شروط تعيين وترقية الأعضاء، وتقويم أدائهم، ووضع اللوائح التي تشير إلى توفير مجالات حضور بعض الدورات وتيسيرا لمشاركة في المؤتمرات، وتوفير الدعم المالي لإنجاز البحوث والمساعدة في المؤتمرات، وتوفير الدعم المالي لإنجاز البحوث والمساعدة في نشرها وفق قواعد محددة وإتاحة المجال للاستفادة من مراكز ووحدات التقنيات التعليمية في الجامعات .وكل هذه الوسائل والإمكانات المتاحة لمساندة عمليات التدريس والارتفاع بمستويات الأداء التعليمي لتغيير ذهنية طلاب الجامعة في ضوء الأهداف المنوطة بالجامعة.

وأستاذ الجامعة موقف ومنهج، موقف واضح وجسور وفاعل في مجال معرفته المتخصصة، وهو منهج ناقد وبناء معا إزاء قضايا علمه ومجتمعه وما يضطرب فيه من أفكار وأحداث ومشكلات. وحين تنعزل الجامعة عن المجتمع وتتخلى عن الموقف الناقد الواعي بما حولها ومن حولها، وحين تمسي تضاريسها مسطحة خامدة، ومعارفها مكدسة لا ترتبط بحركة الحياة وآفاقها المتطورة – يفقد العلم قيمته الاجتماعية بل والمعرفية أيضا.

أستاذ الجامعة هو مركز الدائرة والطاقة المحركة للجامعة بمنهجه واقتداره العلمي.

 إنه علم وفن وقيم وموقف (عمار، 1995، ص ص120-121)، وأول خيط في منظومة أستاذ الجامعة العلم الذي يضع التخصص الدقيق في سياق العلوم والمعارف الأخرى يغذيها ويتغذى منها في تكامل معرفي متنام ومجدد ونافع لمجتمعه وللإنسانية حاضرا ومستقبلا. وثاني هذه الخيوط هو الفن من حيث امتلاك قدرة التواصل الناجح والمستمر مع الغير، بدءا بالعطاء والأخذ مع الطلاب إرسالا واستقبالا، ثم التواصل مع غير طلابه من فئات المجتمع المتعلم باعتبار أن الجامعة مركز إشعاع، ساء أكان ذلك عن طريق محاضرات أم لقاءات إعلامية أم كتابات صحفية أم مؤلفات ومترجمات أم مشركات في الندوات والمؤتمرات.

أما الخيط الثالث المشكل للأستاذية فهو القيم التي تمثل القدوة المجسدة أمام طلابه والمجتمع الذي يعيش فيه من حيث الالتزام بالمسؤوليات، والأمانة العلمية وإتقان العمل، والحرص على مشاركة الطلاب مشكلاتهم العلمية والاجتماعية وتشيعهم وكذا مشاركتهم الأنشطة الثقافية والرياضية والاجتماعية إضافة إلى أرائه البناءة على مستويات الإدارة الجامعية. وأما الخيط الرابع فهو جماع لعلمه وفنه وقيمه، حيث يتمثل الموقف في توجيهات المدرسة العلمية التي يدعو إليها، وفي التعبير عن وجهة نظره داخل الجامعة وخارجها، ملتزما الموضعية واقتحام القضايا المطروحة في ميدانه بالمشاركة والحوار المعبر البناء.

 إن تأثيرات أستاذ الجامعة هذه تفوق تأثيرات المناهج الجامعية فمن خلال الأستاذية تتولد لدى الطلاب قيم المعروفة وتصقل المواهب وتطلق القدرات والإبداعات، ويتأكد انتماء الطلاب لقيم مجتمعهم وأهدافه وتوجهاته وأقدارهم على المشاركة الفاعلة فالأستاذ منهج خارج الجامعة وداخلها.

المعلم الجامعي قدوة لطلابه، فهو مثلهم الأعلى، ينتهجون سلوكه، ويهتدون بفكره، ويسترشدون بنصحه. من هذا المنطلق يحمل المسؤولية التأثير في أجيال من طلابه الذين يتزودون بعلمه ويتأثرون بشخصيته، وتلك مسؤولية جسيمة تلقى على عاتقه الالتزام بأن يكون على مستوى القدوة سلوكا وخلقا وفكرا وعلما ورأيا.

إن الأدوار المحورية المنوطة بالمعلم الجامعي يكون حريصا على بث العلم في عقول الطلاب بأمانة وحيدة كاملة، فيعرض لهم الآراء المختلفة والمؤيدة والمعارضة ثم يبدي رأيه دون أن يحاول التأثير فيهم للميل بهم إلى فكر معين وإنما يكتفي بما يساند كل رأي من حجج وأسانيد ويترك للطالب حرية التقييم. فليس للمعلم الجامعي أن يستغل موقعه في الجامعة ليشكل عقلية الطالب وفق ميوله واتجاهاته وأفكاره، فقد يكون بعضها متطرفا ضارا بالمصلحة العامة فتنحرف مهمته عندئذ عن المسار السليم ويمسي ضرره أكثر من نفعه.

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.