لقد أنزل الله القرآن الكريم على نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- بهذا الشكل المعجز الذي أعجز العرب وتحداهم بكل ما لديهم من بلاغة وفصاحة فلم يستطيعوا أن يأتوا بمثله وهو ما أكده قوله تعالى:” لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ” سورة: فصلت:42.
وقال أيضا: “قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ” سورة: يونس:38.
، وقال:”وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ” سورة: البقرة:23. ، وهذا يتجلى في جوانب عدة من ذلك تكرار الحروف والكلمات في أكثر من موضع داخل السورة الواحدة، وما الغرض من هذا التكرار وما مدلوله؛ فلو تناولنا سورة الناس لوجدنا فيها تكرارا لحرف السين قال تعالى:” قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ. مَلِكِ النَّاسِ. إِلَهِ النَّاسِ. مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ. الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ. مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ” سورة: الناس كاملة.
؛ فنجد مثلا حرف السين تكرر في الكلمات :(الناس الأولى-الناس الثانية- الناس الثالثة- الوسواس – الخناس-يوسوس – الناس الرابعة- الناس الخامسة)، وليس التكرار لحرف السين داخل السورة فقط والذي تكرر عشر مرات، فقد تكررت كلمة الناس خمس مرات أيضا دون أن يحدث إخلالا بالمعنى أو أي شيء آخر، بل إن هذا التكرار قد أحدث تناغما جميلا في آيات السورة، فهذا هو من قبيل الإعجاز بكل أشكاله وصوره؛ فالمتأمل للقرآن الكريم يجد أن إعجاز القرآن -كما يقول الخطابي- يشمل ثلاثة أشياء: “لفظ حامل، ومعنى به قائم، ورباط لهما ناظم.” [ثلاث رسائل في إعجاز القرآن للخطابي] فالقرآن الكريم يشمل كل هذه الأمور بكل دقة لدرجة أنك إذا نظرت في آياته “، “لا ترى شيئًا من الألفاظ أفصح ولا أجزل ولا أعذب من ألفاظه، ولا ترى نظمًا أحسن تأليفًا وأشد تلاؤمًا وتشاكلاً من نظمه. وأما المعاني فلا خفاءَ على ذي عقل أنها هي التي تشهد لها العقول بالتقدم في أبوابها. والترقي إلى أعلى درجات الفضل من نعوتها وصفاتها.” إعجاز القرآن للخطابي:27.
وكما نعلم أن حرف السين هو الحرف الثاني عشر من الحروف الهجائية (أب ت ث)
ويعد مخرَجُه من بين طَرَفِ اللسان وفُوَيق الثَّنايا العُليا، ومن صِفات حرف السين أنَّه حرف مهموسٌ رخم، من حُروف الصَّفير، ويكون أصلا وزائدا. سر صناعة الإعراب:1/211، والحُرُوفُ المَهْمُوسَةُ عَشْرة، يَجْمَعُهَا قولُكَ: حَثّه شَخْصٌ فسَكَتَ وإِنما سُمِّيَ الحَرْفُ مهموسا؛ لأنه أُضْعِفَ الاعتمادُ فِي مَوْضِعِهِ حتّى جَرَى مَعَه النَّفَسُ لسان العرب: همس6/251، وتاج العروس من جواهر القاموس للزبيدي:17/42 (ه م س)- طبعة دار الهداية ،
ولا شك أن الهمس كصفة للسين من الصفات المضادة، فالهمس ضد الجهر، الذي يرسُمُ بشكلٍ واضحٍ طبيعةَ عملِ الشيطان الوَسواس؛ حيث يقومُ بعمَلِه بهمسٍ وخِفَّةٍ وحركةٍ لا صوتَ معها كما يخرجُ حرف السين، وفي هذا كنايةٌ عن الجُبن والخِداع، وعدم قُدرتِه على المواجهة الحقيقيَّة للإنسان المتَّصِلِ بالله، والموصول بالقُدرة الإلهيَّة، فغاية ما عندَه أنْ يُرى جبانًا مخادعًا، لا يَقوَى على الحركة أو الصوت، وإنْ صات أو صوَّت ففي إطار الضَّعف والهمس.” قراءة بلاغية في سورة الناس د. جمال عبد العزيز ، لذا فهو يتسم بالليونة في طبيعته وتكوينه على العكس من الجهر، فلا اهتزاز معه للأوتار الصوتية ، فالصوت المهموس هو الّذي لايهتز معه الوتران الصوتيان ولا يسمع لهما رنين حين النّطق به.” الأصوات اللّغوية : إبراهيم أنيس، دار الطباعة الحديثة، القاهرة ، ص20.
والهمس والخفاء يفيدان التمكن والقرب فلا يكون الهمس في الأذن ولا في الصدر إلا ممن قرب منك وتمكن في قربه منك؛ والهمس وسوسة خفية فناسب الإتيان بهذه الفاصلة للدلالة على القرب والتمكن والخفاء وهي متحققة في صفة الوسوسة وهي الشر المستعاذ منه في هذه السورة الكريمة. مسائل سورة الناس : سعيد محمود أحمد على ملتقى أهل التفسير على الشبكة العنكبوتية.
**كاتب المقال
عضو مركز تطوير تعليم الطلاب الوافدين
مشيخة الأزهر الشّريف
الزمان المصرى 