أبله بامتياز ..قصة للأديب العراقى الكبير عيسى عبد الملك

في مرحلة شبابي كانت لي أمنيتان ، كانتا تعيشان وتكبران معي .الأولى أن أكون ضابطا طيارا والثانية أتزوج عائشة ابنة مؤذن جامع الصديق في المحلة . ومع اني كنت مؤشرا لدى امن الدولة من أصدقاء الحزب الشيوعي المحظور أمنيا والمكفر دينيا إلا أني من اجل تحقيق ما أريد نذرت للأئمة . فذات عطلة صيفية ، زرت الإمام الكاظم ، صباح سبت .بتضرع، دعوته أن يعمي عيون الناس عن عائشة ويحفظها لي . سمعني خادم الضريح وقال اطلب حاجتك من قاضي الحاجات وانذر ! قلت بخشوع، يا قاضي الحاجات زوجني عائشة ابنة مؤذن جامع الصديق. كانت عائشة بلون الحليب المخلوط بالشاي وكنت بلون قهوة اليمن حين التحميص.ضحك الخادم وقال آمين .نفحته نصف ما عندي من نقود وعلقت قفلا في الشباك .بعد زواجنا نفتحه معا يا عائشة ،خاطبت عائشة عن بعد . ما ان عبرت جسر الائمة حتى خطر لي أن ازور مرقد أبي حنيفة النعمان .استغرب خادم الضريح حينما سمعني اطلب من الإمام ان يزوجني عائشة ابنة مؤذن جامع الصديق : كما طلبت من الكاظم، اطلب منك أيضا. يا سيدي الإمام زوجني

ابنة مؤذن جامع الصديق ، زوجني عائشة ! ضحك القائم على خدمة الضريح وقال ، يابني هذا إمام صالح مات منذ زمان وليس قاضي محكمة شرعية وقرص أذني !

فتح لي ذلك السبت الذي مازال محفورا في الذاكرة حتى الآن ،باب إحدى أمنتي . كدت أطير فرحا . ليلة الأحد زرت جارتنا العجوز ماري . رجوتها أن تقرأ فنجاني .ضحكت وقالت{ بس لا وقعت في الحب؟ قل لي } قرأت فنجاني .كانت ماري العرجاء تحتاجني لأنها لا تقوى على الوقوف طويلا في طابور فرن الصمون ولا تقوى على التبضع من السوق ، خوف مضايقات اطفال الشارع . .ولأنها كانت كذلك صرت ذراعها وأثيرها المتبرع بالمجان ولأن بيتها صغير هادئ مرتب نضيف بلا ضوضاء ليس مثل بيتنا المكتظ بعشرة افواه ،كنت اراجع دروسي عندها في غرفة معزولة زينتها بصور ممثلات وقديسيين وصورة كبيرة للعذراء وابنها . راحت ماري تقرأ فنجاني، تلعب باعصابي وتضحك. كنت مثل طيرمربوط بخيط ، معلقا بشفتيها الذابلتين وفمها الأدرد. التقط كلماتها: يا موسى ،يا حبيبي ، فنجانك يقول ، لديك حلم سيتحقق قريبا ، غدا أصلي من أجلك وأدعو أمنا العذراء فهي لا تخيب رجائي .ربي يحفظك .والآن ياولدي علي ان أهيئ وجبة العشاء لنا . لا تنسى ان تمرغدا على القصاب .اريد ان اعمل كبة مصلاوية . كانت ماري تنطق الراء غينا كعادة اهل الموصل .بصوت عال قرأت تبليغ اللجنة الطبية. جاءت امي مسرعة تبسمل وتقرأ المعوذات . بأسرع وقت تلفنت الى عائشة.ــ عائشة ، عندي لك خبر سار .سآتيك على جناح السرعة .اجدك بباب الدار بعد دقائق .!كيف ونحن في حالة طوارئ والجيش يملأ الشوارع ؟سآتي ولو اطلقوا علي الرصاص .! ركضت في الشارع غير عابئ بصافرة عسكري يقف في حالة استعداد قرب دبابة .قف،صاح بي جندي شاهرا بوجهي سلاحه بينما ركض آخر نحوي واطبق على معصمي بقوة . اما سمعت صافرة التحذير؟ قال لي ملازم ودود كان على رأس المفرزة . سمعتها.واعلان منع التجوال والاحكام العرفية الم تسمع بها؟ سمعت. وماذا تسمي خروجك في مثل هذا الوضع؟ .خروج على القانون .اذن علينا اعتقالك ما لم يكن لك عذر يبرر ذلك . بشرى احملها لصديق يا سيدي الضابط. اي بشرى في هذا الوضع شديد الخطورة انه انتحار ؟ بشرى اقتراب تحقيق حلمي .هذه ورقة دعوة اللجنة الطبية .تناول الضابط الورقة الرسمية وقال من ذاك الذي تريد ان تبشره ؟ امك ؟ قلت لا .من اذن؟ .خطيبتي . أه اصعد لأوصلك .دون تردد صعدت في سيارة الجيب . خطوبة رسمية ؟ لا هي الآن صديقة لكنها ستصبح قريبا خطيبة .ذلك هو البيت شكرا قلت. لك ربع ساعة. سانتظرك هناك قرب المظلة لاوصلك كي لا تفجع خطيبتك باعتقالك قال الضابط الشاب مبتسما .

كادت ترقص فرحا عائشة حينما قرأت دعوة اللجنة الطبية. تهانينا. تعرف ، كنت اشاركك حلمك ياحلمي الوحيد !؟ . متى تسافر؟ اسافر غدا لاستلام النتيجة واين تقيم ؟ في فندق السعادة في شارع الرشيد .سافتعل عذرا لزيارة اختي الطبيبة في بغداد كي اكون اول من ينثر الحلوى بباب الكلية .الا تعلم ان اختي طبيبة في مستشفى النعمان وزوجها طبيب هناك ايضا ؟ من بيتها سأتصل ما دمت قد عرفت الفندق .قطعت صافرة الجندي حديثنا. هرولت نحو سيارة الجيب العسكرية.مفكرا في كلمات عائشة. انت حلمي ، ليس لي حلم سواك ! ياه يا لي من محظوظ ، صحت دون ان ادري و تمنيت لو اني حضنت عائشة وسط الشارع .!بخفة قط صعدت سيارة الجيب. كان الضابط قد راقب المشهد من بعيد .رأيتها؟ نعم رأيت حلمي . اصعد اذن يا حالم . قال ضاحكا فقلت، حلم من لحم ودم ومشاعر! لم يكذب الضابط فانا حتى في هذا العمر ما زلت اختلق لنفسي حلما اعيش معه وحينما اخسره احزن ، اتوقف لالتقاط الانفاس واحصاء الخسائر بين الركام وابدأ بصنع حلم آخر .كنت صانع احلام كثيرا ماعصفت بها رياح الايام .حلم ان اكون طيارا رافقني منذ الصغر اما حب عائشة فقد كان صدفة بعد لقاء في حفل عرس ثم امتزج الحلمان ،تداخلا مثل الوان لوحة لفنان قدير . طيار عسكري أحلق عاليا في الاجواء. تحترم الناس بزتي ويهابها البعض. تعشقني بنات الجامعة ويتملقني البعض وفي السوق ايام الجمع حيث تكثر تجمعات الجنود كثيرا أستمتع برد التحايا ومثل طاووس اتبختر زهوا ببدلتي العسكرية ونجوم رتبتي الذهبية اللامعة . كلما وقفنا استعدادا للملازم الطيار طارق رد التحية باسما وقال ،كي تكون ضابطا في جيش يضاهي جيوش العالم المتحضر ،عليك ان تكون موسوعي العقل سليم الجسم . كنت ومحمد نحب الملازم طارق ونعجب به . كان محمد جارح يشاركني هذا الطموح والحلم اللذيذ حتى حدثت الكارثة ، حينما ، حرصاعلى مشاعر اخيه الريفي محسن ،طلب سائق القطار جارح من العائلة ان تأكل معه في صينية واحدة . وبحكم الجيرة كثيرا ما شاركت العائلة وجبات طعامها .! بعد شهرين مات محسن وبعد اربعين يوما مات جارح .لم أأسف على موت الأثنين لكني بكيت كثيرا على صديقي . كنا في الرابع ثانوي يومها حينما تقيأ دما قانيا في حجري .مازلت اذكرالرعب في عينيه وهو يلوذ بي من الموت .يتعلق بياقتي بيأس ناظرا الى قطع رئتيه تملأ حجري ثم فجأة ارتخت يداه ولفظ آخر انفاسه .فتح جندي باب قاعة اللجنة الطبية ونادى علي. اعتراني قلق غير مبرر اذ كنت واثقا من نجاحي في الفحص الطبي ومستوى الذكاء ومن سلامة لياقتي البدنية فقد بذلت جهدا في تنمية جسمي وقرأت كثيرا لتوسيع دائرة معلوماتي ولم يكن باطن قدمي مسطحا فقد رأيت طبع قدمي المبللين على بلاط القاعة .لا ادري وانا في غمرة فرحي وساعة ترقب النتيجة لماذا تذكرت صديقي محمد وموعدي مع عائشة واختها الطبيبة في مقهى رضا علوان في الكرادة لأزف لهما الفرحة .كانت عائشة قد تلفنت لي الليلة الماضية .غشتني غمامة حزن فمحمد مات وانقرضت عائلة جارح واحدا بعد الآخر .منذ سنين نسيت المأساة وكاد الجرح يندمل .يا الهي ما ابطأ اجراءات الروتين واطول ساعات الانتظار ! دخلت قاعة اللجنة الطبية .استقبلني ضابط برتبة عقيد وراح يسالني.منذ متى شفيت من التدرن ؟ لم اصب مطلقا قلت . لا تماطل بل اصبت . قلت لا .هل اصيب احد من عائلتك ؟ ابدا .صارحني يا بني . اقسم على ذلك يا سيدي .لا تقسم فالأشعة لا تؤمن بالقسم .لدي ما يثبت انك كنت مصابا .لا افهم ياسيدي .هذا تصوير رئتيك الشعاعي يقول عكس ما تدعي .ومعه التقرير .قال . ناولني تقرير اللجنة الطبية واشار ان انصرف .كدت اصعق وانا اقرأ عبارة : لا يصلح للخدمة العسكرية. تدرن متكلس في الرئة اليسرى .كان التقرير يقول .لا ادري كيف وصلت فندق السعادة . تمددت على السرير ورحت انحب بصوت عال ودون غداء نمت .لا تنسى موعدنا في مقهى رضا علوان، سنسبقك انا وام زيدون . جائني صوت عائشة عبر سلك التلفون ..قبل ان يأتيننا النادل بادرت ام زيدون قائلة ، هل اقول تهانينا ؟ اطرقت ولم اجب فكرت علي قائلة هات التقرير .وبحركة انسان آلي فاقد الروح سلمتها التقرير .تأملته بصمت. هزت رأسها كمن فوجئ بخبر صاعق، ماهذا ؟ تدرن؟ صرخت وبوجه عائشة بغضب رمت التقرير .تفضلي لم يقبل في الكلية، حبيبك مصاب بالسل منذ سنين يا بلهاء ! أنا ، أنا ، تمتمت فصاحت الطبيبة ، انت ماذا ؟ انت ابله بامتياز وممثل بارع .

.هيا لننصرف .قالت وسحبت اختها من يدها كما لو انها تريد انقاذها من براثن وحش مفترس !

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.