الأستاذ الدكتور صبري فوزي أبو حسين يكتب عن :كيفية مواجهة المشكلات المادية في الإسلام

الإنسان في هذه الحياة الدنيا الفانية معرض كل وقت وحين لأزمات مادية ومشكلات اقتصادية كثيرة ومتنوعة، وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تتناول هذه القضية بالعرض والتحليل والعلاج، بدءًا من الإقرار بأن الإنسان في الدنيا مُبتلًى بأنه خلق في (الكبَد) الذي هو تعب بسبب أزمات ومشكلات؛ مصداقًا لقول الله تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ﴾ [سورة البلد:4]،أي في نصب، قال الحسن: يكابد الشكر على السّرّاء والصبر على الضّرّاء، ولا يخلو من أحدهما، ويكابد مصائب الدنيا، وشدائد الآخرة.. ومرورًا بذكر هذا التعب وهذه المشكلات وهذه الأزمات بتسميات وإطلاقات عديدة ومتنوعة في آيات كثيرة؛ فقد سميت الأزمات والمشكلات بالفتنة في قوله عز وجل:﴿أحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ۝وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾[العنكبوت1-3]، وفي قوله تعالى: ﴿وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾[الأنبياء36]، وسُمِّيت بالابتلاء في قوله تعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ۝الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾[سورة الملك1-2]، وسميت بالمصيبة في قوله: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ۝الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ۝أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ سورة البقرة:[155- 157]… وغير ذلك من الإطلاقات القرآنية الدالة على رؤية خاصة تجاه المشاكل والأزمات، والدالة على اهتمام خاص بها في ظلال الإسلام.

ونصوص الإسلام من الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة تقدم مجموعة من الحلول الناجعة والوسائل الشافية الناصعة في مواجهة هذه الأزمات والمشكلات: حلول قلبية وعقلية وسلوكية إيجابية فاعلة، بحيث يستفيد العبد من تجاربه – الناجحة والمخفقة على السواء – فيصهر ركام خبراته بالتفكير المنهجي والنقد البنَّاء، ثم يتلقف بعد ذلك الدروس الصالحة والوسائل المفيدة الشافية الواقية، فيشيّد بها بناءً علميًّا ومنهجًا سلوكيًّا تتراكم أجزاؤه عبر بحثه وتدبره وعبر خبراته الحياتية المُتتابعة معها، فيثبت في مواجهة كل عقبة وكل مشكلة، ويتعامل معها تعاملاً علميًّا وعمَليًّا راقيًا وساميًا، وصالحًا ومصلحًا له وللناس أجمعين، وذلك ما اصطُلح على تسميته عند علماء الإدارة بـــــــ “علم إدارة الأزمات.

ونقف في هذا المقال مع جملة وسائل روحية وعَمَلِية تُعين الإنسان المسلم على مواجهة تلك الأزمات، على النحو الآتي:

المواجهة العقدية:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

والوسيلة الأولى لمواجهة المشكلات والأزمات في ظلال تعاليم الإسلام لابد أن تكون عَقَدِيَّة في المقام الأول أي أنها قلبية وروحية، بحيث لا يكون العبد جزِعًا هلوعًا معترضًا شكَّاء سلبيًّا، لاطمًا الخدودَ، شاقًّا الجُيوبَ، داعيًا بدعاوى الجاهلية، فيصل إلى مرحلة اليأس والقنوط! التي تؤدي إلى حالة شيطانية مُدمِّرة، نسأل الله أن يعيذ المسلمين والمسلمات منها جميعًا. فعلى المسلم أن يؤمن بأن كل المشاكل اختبار من الله تعالى، وأن النفع والضرر من الله أولاً، وأن يسترجع ويصبر ويحتسب لحظة وقوع الصدمة ثم يركن إلى الله – تعالى -رَجاءَ أن يُخلف الله عليه ويعوِّضَه عن مصابه… قال الله تعالى: ﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [سورة الأنعام]، وقال تعالى: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُون﴾ [سورة الزمر]، وقال رسولنا الخاتم -صلى الله عليه وسلم-: “وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ” [حديث صحيح، رواه الترمذي عن ابن عباس، رضي الله عنهما]. ..؛ فالخير والشر من الله ، والنفع والضر من الله؛ فهو المعطي وهو المانع، وهو النافع وهو الضار عز وجل..إن الله ربنا – سبحانه وتعالى- هو المالك المدبر ، المعطي المانع ، الضار النافع ، الخافض الرافع ، المعز المذل؛ فمن شهد أن المعطي أو المانع أو الضار أو النافع أو المعز أو المذل غير الله- تعالى- فقد أشرك به.

وإن ركن الإيمانُ بقَضاءِ اللهِ وقَدَرِه يَجعَلُ المؤمِنَ في رِضًا كامِلٍ على كُلِّ أَحوالِه، بخِلافِ غَيرِ المُؤمِنِ الَّذي يَكونُ في سَخَطٍ دائِمٍ عندَ وُقوعِ ضَررٍ عليه، وإذا ما حاز نِعمةً مِن اللهِ -عزَّ وجلَّ- انشَغَلَ بها عن طاعتِه، فضْلًا عن صَرفِها في مَعصيةٍ، ولهذا كان تعجب النبي -صلى الله عليه وسلم- من حال العبد المؤمن في هذه الدنيا في حديثه البليغ الدال: “عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وليسَ ذاكَ لأَحَدٍ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إنْ أصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكانَ خَيْرًا له، وإنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا له”[في الصحيح للإمام مسلم].

ومن ثم نجد في السنة النبوية أذكارا حامية واقية للعبد الذاكر، فعن عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : “مَا مِنْ عَبْدٍ يَقُولُ فِي صَبَاحِ كُلِّ يَوْمٍ وَمَسَاءِ كُلِّ لَيْلَةٍ : بِسْمِ اللَّهِ الَّذِي لا يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ثَلاثَ مَرَّاتٍ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ”[حديث صحيح في كتب السنن]، وذلك الذكر النبوي الشريف -بلا شك- سلاح لساني عظيم لكل عبد مسلم في مواجهة مشاكل الحياة ومتاهاتها .

وسائل عِلْمية و عَمَلِية في قصة سيدنا يوسف، عليه السلام:

—————-””

عندما نتدبر سورة يوسف في القرآن الكريم نجد أن سيدنا يوسف-عليه السلام- قد طبَّق علم (إدارة الأزمات) بطريقة دقيقة عميقة حين مكَّن الله-تعالى- له في أرض مصرنا المحروسة؛ فقد أخذ يواجه حالة الجفاف والقحط التي تحيط بالعالم حوله بتخطيط علمي جماعي مُنظَّم، عن طريق خطابه النبويِّ الموجَز والمُلهِم، والذي فيه خطة مستقبلية عمَلِية، مكوَّنة من عدة أساليب اقتصادية طيبة، نصه: ﴿قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَاكُلُونَ* ثُمَّ يَاتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَاكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَاتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾[يوسف47-49]…

وهذا التخطيط الاقتصادي اليُوسُفيُّ القرآنيُّ الكريم، والدقيق والمحكم، يشتمل على وسائل ثلاث لمواجهة هذه الأزمة الاقتصادية العالمية، وقد لُخِّصتْ في آية قرآنية كريمة واحدة، وفُسِّرت بالآيتين بعدها، على النهج الآتي:

الوسيلة الأولى: الإنتاج الزراعي المنظم والمستمر:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لاريب في أن الزراعة أحد الحلول الناجعة في مواجهة الأزمات الاقتصادية في كل بلد ومجتمع؛ لأن الزراعة-كما يقرر ويدعو كبار علماء الزراعة والاقتصاد في وطننا- هي قاطرة كل تنمية، وهي مصدر عز كل بلد ومجدها، وأساس أمنها واستقرارها، وعلى الزراعة ومنها تقوم الصناعات، وتقام التجارات، وفي الزراعة أكلنا وشربنا ولبسنا؛ فإذا أردنا تخطي العثرات والأزمات وسد الفجوات، وترخيص الأسعار فعلينا النهوض بقطاع الزراعة نهوضًا كبيرًا مستمرًّا متطورًا. ولعل هذا ماجعل سيدنا يوسف-عليه السلام-الزراعة وتنظيمها هدفه الأوّل، وخاصّةً بعد علمه بأنّ السنين القادمة هي سنوات الوَفْرة، والتي تليها هي سنوات المجاعة والقحط، فدعا الناس في زمنه إلى الاهتمام الزراعة وزيادة الإنتاج الزراعي، وذلك في هذه الجملة الخبرية على لسانه: ﴿تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً﴾، أي تزرعون هذه السبع السنين، كما كنتم تزرعون سائر السنين قبلها، على عادتكم فيما مضى، و(تَزْرَعُونَ)-كما يقول الإمام الطبري- خبر في معنى الأمر، …وإنما يخرج الأمر في صورة الخبر؛ للمبالغة في إيجاب المأمور به، فيجعل كأنه يوجد، فهو يخبر عنه. والدليل على كونه في معنى الأمر قوله: ﴿فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ﴾، و(دَأَباً) مصدر يعني -في الأصل- إدامة الحركة واستمرارها، كما أنّها بمعنى العادة المستمرة، فيكون معنى هذه الجملة اليوسفية القرآنية: عليكم أن تزرعوا تبعًا لعادتكم المستمرة في مصر، ولكن ينبغي أن تقتصدوا في صرف إنتاجكم.. ويحتمل أن يكون المراد منه أن تزرعوا بجد وجهد أكثر فأكثر؛ لأنّ دأبًا ودؤوبًا بمعنى الجدّ والتعب أيضًا، أي اعملوا حتّى تتعبوا.

الوسيلة الثانية:التخزين العلمي للمحاصيل:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كما طلب سيدنا يوسف-عليه السلام- من أهل مصر أن يُخزِّنوا المحاصيل الزراعية تخزينًا علميًّا دقيقًا، يتمثل في ترك المنتجات الزراعية في سنابلها؛ لئلاّ تفسد بسرعة وليكون حفظها إلى سبع سنوات ممكنًا؛ فيستفاد منها أثناء الجفاف والشدّة، وبعد انتهاء السنوات السبع.. وبالطبع فمن المعروف لديه-عليه السلام-أنّ سنةً ستأتي بعد هذه السنوات مليئة بالخيرات والأمطار، فلابدّ من التفكير في البَذْر في تلك السنة، وأن الاحتفاظ بشيء ممّا يُخزَّن ضروري للمتابعة في مزيد من الإنتاج الزراعي، حيث يحلّ بهم القحط لسبع سنين متوالية فلا أمطار ولا زراعة كافية، فعليهم بالاستفادة ممّا جمَّعوا في سنيّ الرخاء، قال الله تعالى على لسان سيدنا يوسف -عليه السلام-: ﴿ثمّ يأتي بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدّمتم لهنّ﴾….

وقد جعل سيدنا يوسف-عليه السلام- هذه الوسيلة عقب وسيلة الزراعة مباشرة، حيث عبر بحرف العطف الفاء الذي يفيد الترتيب والتعقيب، وذلك في قوله: ﴿فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ﴾. قال الإمام الطبري: وهذا مشورة أشار بها نبي الله- صلى الله عليه وسلم- على القوم، ورأيٌ رآه لهم صلاحًا، يأمرهم باستبقاء طعامهم…

الوسيلة الثالثة: الاستهلاك الرشيد والإنفاق المعتدل:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

في زمن الشدائد والأزمات والمشاكل المادية لابد من الاستهلاك العاقل الرشيد، ومن الإنفاق المعتدل المنضبط، مصداقًا لقول الله تعالى: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا﴾ [النساء:5]، يقول الإمام الطبري: ينهى الله -تعالى- عن تمكين السفهاء من التصرف في الأموال التي جعلها الله للناس قيامًا، أي: تقوم بها معايشُهم من التجارات وغيرها  فينبغي للعبد المؤمن أن يعرف مصدر كل ماله ومخرجه، وأن يعمل على تنميته واستثماره بكل وسيلة شرعية وحلال، وألا يعرضه للنقصان أو الضياع أو الإتلاف! مصداقًا لقول رسولنا-صلى الله عليه وسلم- لسيدنا عمرو بن العاص-رضي الله عنه-:” نِعْمَ المالُ الصالِحِ للمَرْءِ الصالِحِ”[أخرجه البخاري في الأدب المفرد]، ووصف المال والإنسان بالصلاح هنا يعني صالح المال مصدرًا وإنفاقًا، وصلاح صاحبه في طريقة الحصول على المال وطريقة إنفاقه أي: نِعْمَ المالُ الحَلالُ للرَّجُلِ الذي يُنفِقُه في حاجَتِه ثم في ذَوي رَحِمِه وأقارِبِه الفُقَراءِ ثم في أعْمالِ البِرّ، وكل عمل تطوعي يعود على الوطن والمواطنين بالنفعِ والخير والفائدة . .

وهذا ما دعا إليه سيدنا يوسف -عليه السلام- الناس في زمنه، دعاهم إلى عدم الإسراف في استعمال المنتجات الزراعية وتحصين الحبوب وخزنها وحفظها؛ للاستفادة منها في أيام القحط والشدّة؛ فعليهم أن يحذروا من الاستهلاك السفيه للطعام والخيرات، وذلك في هذين الاستثناءين البليغين الدالَّينِ: ﴿إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَاكُلُونَ﴾، و﴿وإِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ﴾، والتحصين هنا هو الادخار والتخزين والحفظ، فإنهم إذا واظبوا على الالتزام بهذه الخطّة المحكمة فإنه لا خطر يهدّدهم، حيث سيأتي من بعد ذلك عام فيه يُغاث الناس بأن يدركهم الغيث فتكثر خيراتهم، وليس هذا فحسب، بل وفيه رفاهية تتمثل في أنهم يعصرون المحاصيل لاستخراج الدهن والفاكهة لشراب عصيرها؛ فمن المعروف من سنن الله -تعالى- في هذه الحياة الدنيا أنه تكون عقب كل مِحنةٍ منحةٌ، وعقب كلِّ ضراء تكون السراءُ، وعقب كلِّ قحط يكون الرخاءُ، بعون الله ومشيئته وقدره عز وجل.

الوسيلة الرابعة: الإيثار وقت الأزمات:

التعاون الجماعي على البر والتقوى من مقاصد الإسلام ومبادئه الكلية الجامعة؛ وفي السيرة النبوية العطرة نجد أسلوب الإيثار موجودًا منذ حادث الهجرة النبوية المباركة، حيث العطاء الكامل من سيدنا أبي بكر الصديق وأسرته، رضي الله عنهم أجمعين، والعطاء الكامل من أهل المدينة من الأنصار، الذين وصفهم الله تعالى وأثنى عليهم بقوله: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الحشر:9]، وفي السنة النبوية الشريفة نجد تقريرًا لهذه الوسيلة الرابعة الناجعة المهمة في مواجهة المشاكل الاقتصادية وحلها، وتتمثل في المُواساةُ والتَّكافُلُ بيْن النَّاسِ عِندَ الأَزماتِ، ولقدْ تَميَّزَ بِها الأَشعريُّون، وهمْ قَبيلَةٌ مِن أَهلِ اليمَنِ، ومنها الصَّحابيُّ أبو مُوسى الأشْعريُّ، رَضيَ اللهُ عنهم؛ فقد مدَحَهُم النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بهذه الصِّفةِ- حيثُ قال: “إنَّ الأشْعَرِيِّينَ إذا أرْمَلُوا في الغَزْوِ، أوْ قَلَّ طَعامُ عِيالِهِمْ بالمَدِينَةِ، جَمَعُوا ما كانَ عِنْدَهُمْ في ثَوْبٍ واحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بيْنَهُمْ في إناءٍ واحِدٍ، بالسَّوِيَّةِ، فَهُمْ مِنِّي وأنا منهمْ”[صحيح البخاري]؛ ففي الوقت الذي يفنى فيه الزادُ والطعام أو يقلّ، كانوا يجمَعُون القليلَ الَّذي بَقيَ عندَ بَعضِه في ثَوبٍ واحِدٍ، ثمَّ يقتَسَمُونه بيْنَهُم في إناءٍ واحِدٍ بالسَّويَّةِ، بأن يَأخُذُ كلُّ فَرْدٍ مِثلَ أخيهِ، وفي هذا يَتجلَّى الإيثارُ والمُواساةُ؛ لأنَّ بَعضَ هؤلاء لَيس عندَه شَيءٌ، وبَعضُهم عندَه قَليلٌ. ثمَّ شرفهم النبي -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- بقوله: «فهُمْ مِنِّي وأنا مِنهُم»، أي-كما يقول شراح الحديث-: مُتَّصِلُونَ بِي في الأَخلاقِ والمُواساةِ فيما بيْنَهم، وكأنَّه يقولُ: هذا العمَلُ مِن عَمَلي، وهمْ على طَريقَتي وسُنَّتي وهَدْيِي، وفي هذا تَنْبيهٌ على مَكارمِ أخلاقِهم، للحثِّ على التَّأسِّي بهم والاقتداءِ بأَفعالِهم في كل زمان ومكان.

فاللهم اجعلنا مفاتيح للخير مغاليق للشر، واللهم وفِّقْنا لليُسرى وجنِّبْنا العُسرَى، واللهمَّ اكفنا بحلالك عن حرامك، وأغننا بفضلك عمن سواك، ونسألك اللهمَّ الهُدى والتُّقَى والعفافَ والغِنى…

**كاتب المقال

أستاذ ورئيس قسم الادب والنقد بكلية

الدراسات الاسلامية والعربية للبنات بمدينة السادات

 وعضو اللجنة العلمية الدائمة للأساتذة

 والاساتذة المساعدين بجامعة الازهر.

مفهوم الخير والشر عقديا ( عقائديا ) .. دراسة منهجية وقراءة متأنية في عقيدتنا الإسلامية الصحيحة الصافية دراسة في المضمون لا الشكل  ..قام بجمعها الراجي عفو  الناقد ربه رفيق فهمي  

أولاً  :  التمهيد  :                                             

  بسم الله تعالى الذي لا تتم السابغات من الأقوال والأعمال والأفعال إلا   لا شريك له والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد بن عبد الله الصادق الوعد الأمين وعلى آله وصحبه الطاهرين الذين ارتضاهم الله تعالى رب العالمين ليكونوا صحبه وصحابته الكرام لنقل وحمل هذا الدين ( الشريعة الإسلامية من كتاب رب العالمين وسنة نبيه العدنان الهادي الأمين المؤتمن على الوحي الإلهي ( القرآن الكريم ) وبعد ما شئت من شيء بعد .                           

   ثانياً  : المقدمة  :                                             

   بعض الناس يظن بعض البلايا ( الابتلاءات ) شر محض  !!!                                                 

  وأن الخير في السلامة من هذا الابتلاء !!!                                                   

 ثم ينسب بعضهم الشر إلى الخالق تجاوزا وعدم تأدب عند حدوث الابتلاء الذي قدره الله تعالى رب الأراضين السبع والسماوات !!!             

  ثالثاً الدراسة المنهجية والقراءة المتأنية في عقيدتنا الإسلامية الصحيحة الصافية  :                                                              في حقيقة الأمر أن الشر نسبي بمعنى  : ( أنه شر بالنسبة إلى العبد لكنه في الحقيقة وفي باطنه خير للعبد – وإن كان فيه شدة وصعوبة على النفس من تقدير الله تعالى للامتحانات والابتلاءات لعبده في هذه الفانية ليقبل على الله تعالى يوم العرض         

” يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ” وقد محيت ذنوبه وطهرت زلاته وأقيلت عثراته ولم يفضح بين الخلائق !!!!!! ؟؟؟؟                                       

   أليس هذا التقدير من الامتحان والابتلاء للعبد في الدنيا ( خير ) له – وإن كان صعباً عليه – من الامتحان في العرصات ( عرصات موقف يوم القيامة ) ؟؟؟ !!!                                      

   أيهما أنفع للعبد ؟؟ !!                                 

 أيهما أفيد للعبد ؟؟ !!                            

   أيهما خير للعبد ؟؟؟ !!!     بمعنى :  أي الأمرين أخير للإنسان  ؟؟؟ !!!

 لكن : كلمتا ( خير وشر ) من الكلمات الوحيدة في لغتنا العربية من صيغ أفعل التفضيل التي تحذف همزتهما فصارتا ( خير – شر ) بدلاً من ( أخير – أشر ) فهما لفظتا تفضيل ومن صيغ أفعل التفضيل التي أقرها النحاة والصرفيون  ( علماء النحو ) .                                          

 عود على بدء  :                                            

  فالشر الذي قد يراه العبد ( الإنسان ) شرا هو في حقيقته وباطن أمره الذي لا يعلمه إلا الله وحده خير للمرء وليس شرا محضا  !!!!! ؟؟؟                    

قد قدره الله تعالى على عبده لأنه سبحانه وتعالى يحب عبده هذا ولا يريد له الخاتمة السوء – نعوذ بالله تعالى من خواتيم السوء – ولا يريد له ( لعبده ) العذاب السرمدي واقتحام النيران فقدر عليه من الامتحان والابتلاء مع ما فيه من شدة وصعوبة على النفس من الابتلاءات من مرض عضال أو فقد عزيز أو فقد مال وثروة أو ما نراه في حياتنا من محن مما هو مشاهد عيانا  !!!!! ؟؟؟                                                        

   فاتضحت حكمة الباري تقدير هذا الابتلاء والامتحان ( الشر الظاهري كما يظنه العبد بفكره القاصر ) أنه ليس شرا !!!!!                           

 بل . هو الخير بعينه الذي لو خير العبد يوم القيامة يوم العرض على ربه إلحاق هذا التقدير والتعب في الدنيا وإنجائه من عذاب الله ومن نيران دائمة لا يعلم مداها ولا يعلم متى يخرجه الله منها – إن هو توفي على التوحيد – أم التنعم بالملذات والشهوات في هذه الدار الفانية ثم العذاب الأليم الذي لا تتحمله الجبال الشواهق ؟                           

 لطيفة  :  

  قال بعض أهل العلم من الفضلاء  : إذا أردت نسبة الامتحان إلى الخالق ربنا الله تعالى فلا تقل : ( بلاء ) بل . قل : ( ابتلاء )      ثم نقل العلماء عدم جواز إنساب الشر إلى الله تعالى – وإن كان سبحانه المقدر له – بصيغة المبني للمعلوم كقول البعض : 

  ( ابتلاني الله بهذا المرض ) أو ابتلاني الله بزوجة صعبة  أو ابتلاني الله بفقد الزوجة أو الولد  !!!!! بل . نقول : ( بصيغة التمريض )    أي : صيغة المبني للمجهول ( ابتليت ) و ( امتحنت ) بكذا ( بضم أوله وثالثه وإسكان ثانيه وكسر ما قبل آخره )  تأدبا مع الخالق !!

عود على بدء  :                                              

 ومعنى قولهم  : ( لا ينسب الشر إلى الله )    ليس معناه أن الله تعالى لم يخلق الشر  !!!!! بل . الله سبحانه خالق كلا من الخير والشر  !!!!!            

 لكن قد يتبادر على الذهن تساؤل لماذا خلق الله تعالى الشر ؟؟؟ ولماذا لم يخلق الخير وحده ؟؟؟ وظاهر التساؤل منطقي  !!!                             

أما الانغماس في الاعتقاد بخلاف ما قدره الله تعالى بحكمته وعلمه وإحاطته بمصلحة وقوع التقدير من عدمه فليس صواباً !!!               

 وليس من عقيدة أهل السنة والجماعة التي أجمع عليها ( وقد ارتضى العلماء مؤلف ” كتاب” العقيدة الطحاوية للإمام الطحاوي التي لخص وجمع فيها أقوال أهل العلم في العقيدة الإسلامية الصحيحة على منهاج النبي صلى الله عليه وسلم ثم على منهاج وفهم الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين لعقيدة التوحيد الصحيحة السليمة الصريحة ) عود على بدء  :                                      

        فالحكمة والتقدير والمشيئة الإلهية تقتضي تقدير هذا الامتحان وهذه المحنة للعبد لمصلحته ولمنفعته لا تنعيمه وإرضائه في الدنيا فقط ثم الامتحان الأشد والأصعب يوم العرض على الرب ” خشعا أبصارهم لا يرتد طرفهم وأفئدتهم هواء ” .                                         

  أما من تجاوز وخطل ( أخطأ ) في المعنى فليراجع العقيدة الخالصة والتوحيد الصافي النقي في حق الله رب العالمين وعدم اتهام المولى عز وجل بما لا يصح أن يقال في حق حكيم من البشر !!! فما البال إذا وصف به المولى عز وجل  !!!!! ؟؟؟؟                     

 أستطيع أن أقول :                                      

  إنه تعبير ووصف لا يصدر إلا من مسلوبي العقل والتفكير والمجانين  !!!!! ؟؟؟                            

  أما من اتهم الخالق سبحانه وتعالى بعدم الحكمة في نفاذ المشيئة والاختيار الإلهي فهم القدرية والجهمية من أصحاب القدر ( لا يرتضون بقضاء الله وقدره) !!!!!! ؟؟؟؟                        

  والجهمية نسبة إلى جهم بن صفوان هذا الذي أنكر القدر والمشيئة الإلهية ونسبها للعبد تقديرا ثم لم يكتف !!!!!                                                بل . نسب الشر إلى الله تعالى !!!!! ؟؟؟؟                                             

  ” تعالى الله عما يقول الكافرون علوا كبيرا  ” .   

……………………………

   رابعاً  :  مصادر البحث  :                                            

1- القرآن الكريم .                                             

2- متن العقيدة الطحاوية للإمام الطحاوي .    

    3- ملخص شرح العقيدة الطحاوية للإمام الطحاوي .       

   4- شفاء الغليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل . لشمس الدين ابن قيم الجوزية المتوفى سنة 751  هجرية .         

   وأكتفي بهذه الدراسة المنهجية والقراءة المتأنية في عقيدتنا الإسلامية الصحيحة النقية. فلئن وفقت فبتوفيق من الله تعالى علي   ” ليبلوني أأشكر أم أكفر  ” ..   ” ولئن شكرتم لأزيدنكم “.. ولئن زللت أو قصرت في بعض الجوانب فمن نفسي ومن الشيطان .   ..” وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء ” .  

    **قام بالدراسة المنهجية والقراءة المتأنية  :         

 الراجي عفو ربه / رفيق فهمي واصل

 ناقد أدبي وكاتب صحفي 

بجريدة الزمان المصري الغراء .                                     

القاهرة في صباح الاثنين الموافق                    

  23/1/2023

    قراءةٌ ورؤيةٌ في كتاب ” مرافئُ في ذاكرة يحيى السماوي”  للكاتب والمؤرخ لطيف عبد سالم – جمهورية العراق  ..بقلم/أ.د.أحلام الحسن

وأنا أتصفح في هذا الكتاب الشيق صفحةً صفحة في فصوله اﻷربعة عشر، والتي احتوت على ما لا يعدّ من المعلومات المهمة حول شعر يحيى السماوي ونضاله وحياته ،وعلى شجاعةٍ نادرةٍ للكاتب أبعد من أن تكون نقدًا أو تحليلًا شكليًا بنيويًا للقصائد ، بل تجد الكاتب يعيش في كلّ زاويةٍ من زوايا ومحطات يحيى السماوي ! في عمليةٍ مزدوجة المزايا، والظروف، والصعوبات المتبادلة والمتماثلة على بساط الزمان والمكان، ليرسمَ لنا أدقّ التفاصيل بقلم القاص أحيانًا، وبريشة الرسام الماهر في رسم الصور البلاغية المتنوعة للأحداث أحيانًا   أخر، وكأنك تراها رأي العين، وكأنك عشت معهم تلك اللحظات لحظة بلحظة، وبقلم الرّاوي الحاذق المثير الذي يثير الفضول في نفس القارئ للإطلاع على المزيد من أحداث هذا الكتاب.

العنونة :

العنوان وهو المدخل الممهّد والخطوة الأولى إلى الكتاب، وهي المفتاح المؤدي لفتح بوابته، والعتبة الأدبية الأولى لما خلفها من السرديات والنصوص، وليس من السهل إيجاد العنوان المناسب لكتاب ضخمٍ وعميقٍ في سردياته ومفرداته، فعنونة الكتاب هي الصرخة الأولى لهذا الوليد، لما له من فاعليةٍ في رسم صور الكتاب التخيليه، ومدى محتوى متنه وهوامشه، وهي تلعب الدور الأول المركزي الفعال لمدلولات الكتاب، فثمة منظومةٍ بين الكتاب وبين عنونته، ترسم مشاهده التصوّرية لدى فكر القارئ، وبرأي المتواضع أرى بأنّ العنوان المعنون لهذا الكتاب لم يشتمل على كافة مداخل ومطوياتٍ دفّاته التي تجاوزت 300 صفحةٍ، كل صفحةٍ تاريخ بحدّ ذاتها، والذي لم يدع الكاتب فيه معلومةً تطرّق إليها شعر يحيى السماوي إلّا وتبّحر فيها، وأزاح عنها دجى الظلمة، وأبلج فيها تاريخ وطنه العراق، مذ عصور السومريين وجلجامش خامس ملوك أورك ٤٧٠٠ عامٍ قبل الميلاد، مارًا بجغرافيا المنطقة وحقولها وفراتها وأسواقها القديمة، ودكاكينها وسككها ونضالها.  

 فثمة تجانسٍ فكريٍّ بين الشاعر يحيى السماوي والكاتب لطيف عبد سالم، فعندما تطالع هذا الكتاب تعرف أنك أمام ثائرين على الظلم، ومؤرخَين لتاريخ السماواة والعراق، والعديد من المدن العراقية،  وبانطلاقةٍ فكريةٍ لدى الكاتبين تبهر القارئ والمتابع لهذا الكتاب، يكتشف فيه المطالع قدرة المؤلف على صياغة نوعية عباراته والمختارة بدقةٍ شديدة، تفوق التصور التحليلي الأدبي المعتاد لدى الناقد والمحلل، فهنالك صولاتٌ وجولات، ألمٌ وجوع، فقرٌ وفاقة. أطفالٌ لم ينعموا بطفولتهم ، كرتهم كومة أقمشةٍ باليةٍ يلعبون بها في أزقةٍ ضيقةٍ تفوح فيها رائحة خبز اﻷمهات أكثر مما تفوح فيها رائحة شواء اللحم إن وجد ،  كل ذلك وأكثر تجعل القارئ يشعر بأنه أمام كاتبين وشاعرين مناضلين من الدرجة الأولى، كما تشعره بأنّه أمام مؤرخَين وأديبين اتسمت تجليات كتاباتهما بالبلاغة  والنضوج الفكري، فهي دسمةٌ حدّ الإشباع، وخصبةٌ كنخيل الفرات الخضراء،

والمدهش في هذا الكتاب أنّه ما من سؤالٍ يرد لعقل القارئ حول تاريخ العراق وتاريخ مدينة السماوة بالذات، إلّا ويأتيه الجواب عبر صفحاته، وكأنّ هذا الكتاب كان ينتظر سؤال القارئ ليجيبه على الفور !!

ثمة جاذبيةٍ في هذا الكتاب شدّتني كثيرًا إليه، وأعجبني الثراء الفكري والثقافي لدى مؤلفه حتى وصل بيَ الأمر حدّ الانبهار ! .

وبأساليبه الشيقة التي تجذب القارئ نحو متابعته، فللسرد القصصي فيه براعةٌ وجاذبيةٌ تأخذ مأخذ الرواية المثيرة، فتجعل القارئ يسبح في فضاءات اﻷدب شعرًا وقصةً ورواية ،فكلّ شيءٍ فيه ناطق، الطبيعة ناطقة، السياسة ناطقة، والتاريخ المؤلم ناطق، والنضال ناطق، وذكريات الفقر والإقصاء ناطقة،  ولم يتمّ التكتم على شيءٍ فيه، وبعبارةٍ لفتت نظري في الفصل اﻷول حول تعقيب المؤلف على قول الصحابي الجليل أبي ذرّ الغفاري رضوان الله عليه ” إذا سافر الفقر إلى مكانٍ قال الكفر خذني معك”

قول الكاتب : ( ووفق هذا الرأي المصيب تعدّ ” السماوة” بوصفها مدينة كافرة

لكنه كفرٌ بالظلم، وغياب العدالة، مثل ما هو كفرٌ بالنواطير اللصوص السماسره والمجاهدين الزور )

ومن خلال تلك الإضاءات أبحر الكاتب في مزيدٍ من المعلومات المثيرة حول هذه المدينة المنزوية غصبًا، وحول القضايا المهمة التي تعرضت لها على مرّ هذا القرن، فالمطالعة في هذا الكتاب تشعر القارئ بأنّ ثمة روحٍ واحدةٍ تقبع بين أضلاع الكاتبين يحي السماوي ولطيف عبد سالم تشقّ أفق العراق.

 الإيجاز والإعجاز في قراءة الأديبة المبدعة والكاتبة المنمازة والإعلامية المتميزة أحلام الحسن في كتاب ” مرافئ في ذاكرة يحيى السماوي” للكاتب المبدع والمؤرخ الرائق ” لطيف عبد سالم ”  بقلم /  رفيق فهمي واصل

            بسم الله الذي لا تتم السابغات من الأقوال والأعمال والأفعال إلا به وحده لا شريك له وأصلي وأسلم على خير البرية وخير الخلق كلهم سيد ولد آدم سيدنا ونبينا وحبيبنا وشفيعنا سيدنا محمد صلاة وتسليما تبلغ الآفاق وبعد .

  تعد قراءة الكاتبة المنمازة والأديبة المبدعة والباحثة السامقة الأستاذ الدكتور أحلام الحسن قراءة ثانية للكتابين  :                                      1- المتن : للشاعر العراقي الكبير المبدع يحيى  السماوي

2- الشرح والتأريخ والدراسة الأدبية المستفيضة للكاتب المؤرخ العراقي لطيف عبد سالم . حيث أوجزت الكاتبة المنمازة ما قاله الكاتب المؤرخ المبدع لطيف عبد سالم في عجالة تسعف القارئ الذي يريد تناول وجبة سريعة من الثقافة والعلم في زمن السرعة،في أسلوب رائق ماتع وهذا إن دل فإنما يدل على  :

      1- وعي الكاتبة والأديبة الأستاذ الدكتور أحلام الحسن وعلى قراءتها المتأنية للمؤلف .

  2- لا القراءة العابرة المختطفة وهذا نادر في عصر السرعة أن تجد أديباً أو كاتباً أو باحثاً يعيد القراءة بتأن وتحليل دقيق رسمته ريشة أحلام الحسن الكاتبة المنمازة .

  3- ما يرضيك ويطمئنك أن الكاتبة القارئة والمقدمة للكتاب هي باحثة وأستاذ أكاديمي له دربة البحث والأمانة العلمية في النقل ، وقبل أن أختتم قراءتي المتواضعة لقراءة أستاذتنا في فن الكتابة والبحث الأستاذ الدكتور أحلام الحسن أشير بأن ما أبدعت وتحدثت به عن أن عنونة الكتاب مدخل لفهم القارئ وعنوان الكتاب ” مرافئ في ذاكرة التاريخ … ” ينبئك أنك سوف ترسو على سفين لتبحر مع الكاتب لطيف عبد سالم ولتغوص في أعماق النص الشعري مع الشاعر الكبير الرائق المبدع يحيى السماوي في عالمه الخاص  !!!                                      

     لعلي بهذه الإشراقة والقراءة بعد القراءة والعجالة أكون قد أوفيت حق الكاتبة المنمازة والأديبة المبدعة والباحثة السامقة أحلام الحسن فيما خطه قلمها الرقراق الذي كشف لنا في إيجاز غير مخل بالمعنى المراد الذي أراده كل من الكاتب المبدع المؤرخ لطيف عبد سالم وما أراده الشاعر الكبير المبدع الرائق يحيى السماوي والله تعالى وحده من وراء القصد وعليه المعتمد .               

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

**كاتب المقال

 ناقد أدبي وكاتب صحفي

 بالقسم الثقافي بجريدة

 الزمان المصري 

”  القاهرة في عصر الاثنين

 الموافق  23/1/2023

 عادل وليم يكتب عن : شيخ التربويين المصريين الدكتور حامد عمار

ولد الدكتور حامد عمار الملقب بشيخ التربويين المصريين في قرية “سلوا” بمحافظة أسوان في أقصى جنوب مصر في 25 فبراير عام 1921

التحق بالمدرسة الابتدائية بإدفو في صيف 1928 وكانت مدرسة إلزامية وهناك أوصي المعلم الأب بالاهتمام بالصبي وضرورة استكمال تعليمه للحصول علي لقب أفندي

فلما ذهب إلي إدفو أدهشه وجود حنفيات للمياه في الغرفة التي يسكنها كما أدهشه زحام المدينة وحركتها وكانت مصاريف المدرسة ثلاثة جنيهات مع وجبة غداء

حصل علي الليسانس عام 1941، والتحق بالمعهد العالي للتربية بالأورمان وقد صادف يوم التحاقه الأول به إضراباً عاماً فقطع الرحلة علي الأقدام! وبعد التخرج استقر به المقام مدرساً في مدرسة قنا الابتدائية حيث بدأ مدرساً للتاريخ والجغرافيا وتسلم بطاقة التموين المقررة لشراء أقمشة «الدبلان والدمور»

إلي أن جاءته بعثة إلي باريس عضواً في وفد مصري إلي اليونسكو ثم ألحق بالعمل في المركز الدولي للتربية الأساسية في قرية سرس الليان في المنوفية وهي قصة امتدت ستة عشر عاماً علي سبيل الانتداب.

كان أول مصري يحصل على درجة الدكتوراه في اجتماعيات التربية من جامعة لندن عام 1952 وحملت رسالته عنوان “التنشئة الاجتماعية في قرية مصرية” وعاد إلى مصر ليعمل بجامعة عين شمس.

أصدر د/ حامد عمار كتابه الأول “العمل الميداني في الريف” في عام 1954 وأتبعه عده كتب منها “في اقتصاديات التعليم” 1963 و”أعاصير الشرق الأوسط وتداعياتها السياسية والتربوية” و”في آفاق التربية العربية المعاصرة من رياض الأطفال إلى الجامعة” و”تعليم المستقبل من التسلط إلى التحرر” و”مواجهة العولمة في التعليم والثقافة” و”التنمية البشرية في الوطن العربي”

الذي نال عنه جائزة مؤسسة الكويت للتقدم العلمي في عام 1994 وهو العام الذي فاز فيه أيضا بجائزة الدولة التقديرية أرفع الجوائز في مصر آنذاك ..كما نال عمار في 2008 جائزة النيل في العلوم الاجتماعية وهي أكبر جائزة في مصر.

سجل د حامد عمار سيرته الذاتية في كتابه “خطى اجتزناها.. بين الفقر والمصادفة إلى حرم الجامعة” التي اعتبرها “رحلة طويلة مذهلة من مجتمع الزراعة البدائي واقتصاد الكفاف والاكتفاء بموارده الذاتية إنتاجا واستهلاكا إلى مرحلة آفاق مجتمع العولمة وعصر المعلوماتية.”

ولعمار إسهامات عربية في مجال التربية حيث ساهم في تأسيس معهد الخدمة الاجتماعية بالأردن في 1970 وأسهم في برامج مكتب صندوق الأمم المتحدة لرعاية الأطفال (يونيسيف) الإقليمي في أبوظبي (1972-1974) وتأسيس مركز التدريب على العمل الاجتماعى في العاصمة العمانية مسقط.

وساهم ايضا في وضع وثيقة إنشاء الصندوق العربي للعمل الاجتماعي التابع لمجلس وزراء الشئون الاجتماعية العرب في تونس (1982)

وتأسيس المجلس القومى للطفولة والأمومة بمصر (1988) وقسم الدراسات التربوية في معهد الدراسات والبحوث العربية التابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم 2001.

 وقد توفي د حامد عمار مساء السبت 8 ديسمبر 2014م عن عمر ناهز الثالثة والتسعين عاما سلامًا لروحه.