أيام الحزن ..قصة بقلم :الدكتور معراج أحمد معراج الندوي

عاد سعيد ذات ليلة إلى المنزل واستقبلته زوجته بوجوم ظاهر كانت شديد شحوب الوجه، أدرك بأن ليس كل شيئ على ما يرام، ومع ذلك قال لها مداعبا: “ماذا أعددت لنا من طعام؟ إني أكاد أموت من الجوع”. 

قالت في شيء من الغضب: ” وإبنتك عافية تكاد تموت من شدة الحمى..”  

هتف سعيد.. “الحمى؟؟  دائما تبالغين.. حتى مجرد نزلة الزكام العادية تجعلك ترتعدين خوفا.. ثم تنمهر دموعك كالطوفان..”

قال هذا، ومع ذلك شعر بخوف لم آلفه طول حياته، حينما رأى دموع زوجته تنسكب في صمت، وفي لحظة همسته ابنته الصغيرة عافية: ” أنا تعبانة يا بابا..” 

نظر إلى وجهها المستدير الدقيق الملامح، والعرق يقاطر على جبينها الشاحب وترددت نظراته على عينيها القلقتين الزايغتين، ورمق صدرها الذي يعلو ويهبط بصورة واضحة، فداخله قلق غامض واضطراب نفسي.

  فكر عند ذلك، وغاب الجوع، حمل ابنتها الوحيدة لأقرب طبيب.. لكن كيف ذلك..؟ نفذ الإغلاق التام في المدينة لأجل تفشي بلاء كورونا، توقفت الأمور كلها، قد عطلت الحياة والنشاط في البلد. 

خرج من البيت وصل إلى الشارع الطويل، لكنه لم يجد التاكسي، فبدأ يسرع إلى المستشفى القريب حاملا على كتفه، دخل المستشفى، فحصها الطبيب  وقال له: ” إنه التيفوئيد.. وسيتم تحليل الدم”. لا بد لها الدخول لكي يرعاها بكل رعاية.

 ظن سعيد  في خلال  يومين أو ثلاثة سيكون كل شيء على ما يرام.. 

مرت أيام ثلاثة كأطول ما تمر الأيام، ولا يذكر أنه استطاع خلالها أن يقبل على طعمه بشهية، يأكل ويشرب، ولكن لا طعم فيه ولا لذة، لجأ إلى الموسيقى التي كان حريصا على سماعها لكنه فقد  كل جمالها ومرحها،  تجردت الحياة من كل أنواعها  ومذاقها، تلاشى كل مرحى السنين في لحظات من التعاسة أطول من الزمن، ولم تسعه الدنيا من الفرحة ،وهو يرلاى أن حرارتها تنخفض، وحالتها تتحسن في الرابع. 

تقدم نحو ابنتها “عافية” وضم إلى صدره في حنان وأخذ يقبل رأسها وجبينها ووجهها ويدها، ودموعه لا تكف عن التدفق.. ثم اشعل سيجارة وأخذ يدخن، شعر راحة في قلبه، وشعر كأنه ولد من جديد، وأنزل الله في قلبه أنذلك قبسا من اليقين والإيمان والإطمئنان. 

واليوم ينظر إلى ابنتها من شرفة المنزل، وهي تجري وتلعب مع اقرانها في الحديقة، يقول نفسه: أه ما أقساها من تجربة.. أه لو تعلمين ياعافية.. من خلال مأساتك العنيفة التي عصفت بي، ووسط ظلامها القاسي الرهيب، ثم اكتشف ستار النافذة التي يستطيع أن يطل منها على أحزان التعساء.  

*كاتب القصة 

الأستاذ المساعد، قسم اللغة العربية وآدابها

جامعة عالية ،كولكاتا – الهند

merajjnu@gmail.com

الدكتورمصطفى يوسف اللداوي يكتب عن :صورٌ ومشاهدٌ من معركة سيف القدس “10” .. أبو عبيدةُ وأبو حمزةُ ناطقانِ صادقانِ ورائدانِ لا يكذبان

                      

وجهان يحبهما الشعب الفلسطيني، ويستبشر بهما العرب والمسلمون، ويشعرون بالطمأنينة لظهورهما، ويفرحون بإطلالتهما، ويثقون بكلامهما، ويبنون على تصريحاتهما، ويصدقون وعودهما، وينظرون إلى عقارب الساعة ثقةً بتهديداتهما، وإيماناً بيقينهما، ويرفعون عيونهم قبلة السماء انتظاراً لردهما وترقباً لوعدهما، الذي يأتي دائماً كالشمس الساطعة في رابعة النهار، مدوياً صاخباً، قوياً مباشراً، وكالأمطار المنهمرة غيثاً، يزفون فيه البشرى لشعبهم وأمتهم، ويلطمون وبه وجه عدوهم ومن حالفه، ويصفعون به وجوه من مالأه ونافقه، فتبيض وجوهٌ بتصريحاتهما، وتفخر وتتيه وتسعد، وتسود بها أخرى وتتوارى خزياً وندماً، وخوفاً وهلعاً.

أما العدو الإسرائيلي فهو يعرفهما جيداً، ويحفظ اسمهما وشكلهما، ويتابع ظهورهما ويصدق كلامهما، ويعرف أنهما ينطقان بالحق فلا يخطئان، ويقولان الصدق ولا يكذبان، ويدرك أن لتصريحاتهما مصداقية ووزن وقيمة وأثر، فأما الحكومة وقادة الجيش والأجهزة الأمنية الإسرائيلية، فإنهم يبنون استراتيجيتهم بناءً على كلامهما، ويغيرون في خطتهم وفقاً لتصريحاتهما، ولا يملكون إلا انتظار ترجمة أقوالهما وتنفيذ وعودهما.

أما المستوطنون الإسرائيليون فهم يصدقانهما أكثر من قيادتهم، ويثقون في كلامهما أكثر من رئيس حكومتهم، وينفذان أمرهما إذا أصدراه نزولاً إلى الملاجئ أو خروجاً منها، وفق التوقيت الذي يعلنان عنه، وإذا تعارضت تصريحاتهما مع تصريحات حكومتهم، كذبوها وصدقوهما، وخالفوها ونفذوا أمرهما.

إنهما الملثمان الأشهران، والصوتان المبشران، الذليقا اللسان البليغا البيان، أبو عبيدة، الناطق الرسمي باسم كتائب الشهيد عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية “حماس”، وأبو حمزة الناطق الرسمي باسم كتاب سرايا القدس، الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي، اللذان عودا شعبهما على الظهور المباشر في الأوقات الحرجة، وعند المنعطفات الخطرة، وخلال الأزمات وفي الحروب والمعارك، ليقولوا لشعبهم وأمتهم بثباتٍ ورباطة جأشٍ، وبكلماتٍ واثقةٍ وعباراتٍ صريحةٍ، أن توكلوا على الله ربكم، وثقوا بمقاومتكم واطمئنوا إلى إخوانكم، ولا تصغوا إلى عدوكم، فردنا قادمٌ، ونصرناً حاسمٌ، وإرادتنا حديدٌ وبأسنا شديدٌ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلبٍ ينقلبون.

استحقا احترام الشعب والأمة، لأنهما دائماً يلعبان دوراً كبيراً في المعركة مع العدو، إما رفعاً للروح المعنوية لشعبهما، وتطميناً لأمتهما وشداً لأزرهما، وإما سخطاً لعدوهما وترويعاً له، فهما كما يعدان شعبهما بالرد القادم والثأر القريب والانتقام الموجع، فإنهما يعدان عدوهما بالصواريخ القادمة، والردود الراعدة، وبأن الانتقام من فعال جيشه الخبيثة سيكون موجعاً وأليماً، وقاسياً ورادعاً.

وقد أثبتت الوقائع والأحداث صدقهما إذا وعدا، ونتيجة تهديداتهما على شعبهما وعدوهما إذا نفذا، وفي معركة “سيف القدس” الجارية كانت لهما كلمتهما الفصل بقصف مطار آرون في النقب، وبوعدهما القاطع بالسماح  للمستوطنين بحرية الحركة والتجوال مدة ساعتين فقط، قبل أن تمطر عليهما السماء دقائق معدودة بعد الفسحة، صواريخ من كل مكانٍ، دكت مدنهم وروعت مستوطنيهم.

يقول الكثير من المحبين لهما والمتابعين لتصريحاتهما، والمنتظرين بشغفٍ لظهورهما، أنهم يعرفونهما جيداً، ويعرفون ملامحهما، كما يميزون نبرة صوتهما، رغم أنهما ملثمين لا يرى من الكوفية غير عيونهما، ولا يظهر منهما إلا يداً تهدد أو أصبعاً يلوح، ورغم ذلك فقد أصبحت صورهما مشهورة، وأسماؤهما معروفة، يتندر بها المواطنون على العدو، ويهددونه بهما، ويتوعدونه بتصريحاتهما، ويعتزون بصدقهما الذي فقدوه مع الناطقين الرسميين قبلهم، والمتشدقين بالأنظمة غيرهم.

لسان حال العرب والفلسطينيين يقول لهما، شكراً لكما أيها الرائدان، شكراً لكما أيها الناطقان، فقد جعلتما كلمتنا محترمة، وتهديدنا فاعلاً، رغم أنكما ترجمانٌ للمقاومة وانعكاسٌ لقرارها، ومعبران عن جاهزيتها وناطقان بحزمها، فالمقاومة هي الأصل، ورجالها هم صناع الصدق، وإنكما منهم وإليهم تنتمون، فشكراً للمقاومة التي قدمتكما، وشكراً لقيادتها التي سمتكما، فلا تتأخران عنا فإننا بكما نستبشر، وبعيونكما نرى النصر، وبكلماتكما نستنهض الهمم ونشحذ العزائم، فجزاكما الله عن شعبكما وأمتكما خيراً، وأراكما النصر الذي تعداننا به، ومتعكما معاً ومعنا بالصلاة في المسجد الأقصى المبارك الذي انتصرتما له.

يتبع….

الدكتورسامي محمود ابراهيم يكتب عن : ترنيمة القدس.. الحقيقة وانتاج المعنى

      يستمر المكان الفلسطيني زمانيا في صياغة مفهوم الحق العربي والاسلامي بمأساة جديدة وبوعي مغاير يحمل سلوكا مختلفا في البحث عن المعنى الديني واعادة انتاجه وجوديا. وربما كانت ظاهرة التضحية والفداء من عناصره الاولى، والا ماذا يعني ان يواجه طفل فلسطيني السلاح الصهيوني العنصري؟! اوليس هذا درسا في الشجاعة التي يجهلها المغتصب… درسا في انتاج المعاني الانسانية وحمولاتها القيمية بما فيها التضحية. هكذا استطاعت الحقيقة بانتفاضتها الجديدة ان تهشم سلطة الاسرائيلي الصهيوني. وتكشف عن هشاشة سلطات عربية تتأكل من زيفها المعتاد ونفاقها السافر، وهي تؤسس لوجود ذات انسانية حرة تمثل الخير في ارض السواد… وما يزال بياض قلب الروح يجوب الصحراء العربية بحثا عن قطرة كرامة الى يومنا هذا. فهل في هذا الوصف قيد شعرة من الانحراف؟

نعم، في معرة العنصرية وسائر نظم الارهاب والدموية ارتبط الدين سياسيا وايديولوجيا بالقومية فانتج تلك الصورة المريضة من ما اسموه ” بالحركة الصهيونية… هي مزيج من فلسفات عدمية تحرف النص عن مواضعه، خاصة السلوكية والقيمية منها، تعد نفسها بالأرض دون حق ولا استحقاق… فيها نجد عقيدة روحية خاوية تحمل اسفار الحقد والكراهية، اما مبادئها السياسية فمتطرفة الى النخاع ومتشظية بمرارة الجبن والخوف من المستقبل. والغريب انهم يمارسون اليوم منصب السدنة لهذا القرن الجديد والذي وصف بانه عصر الديمقراطية والحرية وعصر الحوار البشري وانواره الانسانية، كل ذلك وفقا لتلك الروح الانعزالية والانهزامية ” الشعب المختار”! ومن الثابت ان تلك العنصرية كانت نتاجا لشتات وفتات من فلسفت التربية الصهيونية وقيمها الاسرائيلية الجديدة… مجموعة اوهام وقناعات سلبية عن العرب والمسلمين بل ولسائر شعوب العالم وقومياته المختلفة، فلسفات عنف وعداوة كضرورة حتمية في السياسة الاسرائيلية، نفعية اساسها اغتصاب الحق والصحيح الإنساني المشترك مهما كان. ومن تعاليمهم ان اذا دخلتم ارض الميعاد اقتلوا كل من فيها من رجال ونساء واطفال وشيوخ، حتى البقر وسائر ما موجود من شجر….! اوليس هذا ارهابا يمارس علنا وفي وضح النهار. وليس غريب على الصهاينة هذه الافعال وافتعال الحروب والمجازر في ابشع واحقر صورها اللاإنسانية ثبتها هرتزل بقوله ” القوة قبل الحق”! اي قوة هذه التي تخاف حتى من نفسها؟ صحيح انها تمتلك زمام اللحظة دنيويا بل وتمتلك سائر مقومات الفعل والمكان، لكنها تفتقر الى مقومات البقاء المستقبلي الراسخ في عمق الزمان.. فالأقصى وغزة وفلسطين جزء لا يتجزأ من كيان الحق الوجودي مهما طال الزمن وبعدت الاسباب.. انه حلم العدل انسانيا والذي ينحاز ايضا الى الحلم العربي والاسلامي والى الامل والامن الاجتماعي. لذلك نطالب السياسة عربيا وعالميا الا تتنكر لهذا الحلم وتنتهك الروح… اما بخصوص تساؤلنا الاول فيمكن القول ان  الصهيونية قد ورثت اسواء ما في العقلية الغربية من نهج معرفي وانساني شاذ لبقية العالم، مع وراثتها المجددة لقيادة النفاق الليبرالي والرأسمالي المعاصر… فإسرائيل والصهيونية هي اكبر مستوطنة غربية امريكية متورمة بملكوت الانا . .. لكن لا بد ان تكرر الشمس وجهها المشرق في كشف قاتلي العالم.

*كاتب المقال

رئيس قسم الفلسفة/ كلية الآداب

 جامعة الموصل/ العراق

مصطفى منيغ يكتب من بروكسل عن : للأقْصَى سُيوف لا تُحْصَى

لأول مرّة تحسّ إسرائيل أنها باخرة أشرعتها  تتمزَّق  والزوبعة المُلحَقة بها تتمكّن من لخبطة إبحارها صوب أي يابسة لا تقبل أن ترسو فوقها بعدما تبيَّن للجميع أنها محمَّلة بثقل تصرفات غير إنسانية يهددِّها بالغرق رويداً رُويداً آخر المطاف. فما معني  أن يتدخل “نتنياهو” ليحصل ما يتكرَّر من حصد أرواح بريئة استُشهِدت تحت انقاد منازل وأبراج سكنية ، تعرَّضت لوابل انتقام الجيش الإسرائيلي غير المبرّر ولا المحسوب على أي حرب من حروب لها شروطها والتزاماتها وحدودها وعهد موثَّق مُعترف به عالمياً بعدم التعرُّض للمدنيين وممتلكاتهم لأي ضرر مهما كان بسيطاً ؟؟؟، ما معنى أن يعربد رئس حكومة ذاك النظام الصهيوني فوق أرض لا يملك فيها موقع قدم ، إن لم يكن مُسانَدا من أعداء الشعوب المغلوبة على أمرها المعرّضَة لمثل ما فعله “هتلر” ، ليس باليهود فقط ولكن بأجناس أخرى صام عن ذِكرها التاريخ ؟؟؟، لكن الانتباه بلغ مجراه ، ونهض الجدّ من مرقده ، تاركاً مهزلة “ّأسلو” تخيِّب استكانة مَن لِذُِلِّها وَصَلُوا ، ليتيقنوا أن تحرير الأرض لا يتمّ بالمراوغات السّياسية الظرفية ، وتذوُّقِ حلاوة الانزواء صحبة الماء والخضرة والوجه الحسن ، المتفنِّنة اسرائيل في فرضه على الراغِبة في تسخيره ريثما تتمكّن فتقذف به إلى سراب يُفقدِه (من تلقاء نفسه)  حتَّى الرَّغبة في الحياة ، وإذا كانت اسرائيل قد نجحت لحدٍ ما في إسكات أصوات معدودة  أصحابها معروفون بالاسم ، فإنها فشِلت تماماً رغم صرفها ما صرفته من ميزانيات هائلة على امتداد ما ينيف عن السبعين سنة ، لتقضي على الهوِية الفلسطينية وإن بقيت فمن أجل المظهر ليس إلاّ أما الجوهر فملك للإرادة الاسرائيلية تفعل به ما يمكّنها من مسح الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس من العقول، طبعا المُعتدي تارك بصمة تدل على غبائه ، إن لم نقل عن غرور عقله ، نسي حكماء صهيون ما يمثله الأقصى من أهمية روحية بالنسبة للمسلمين ، وذهبوا في مجالسهم الحميمية الخاصة أن مسلمي اليوم ليسوا بمسلمي البارحة ، والإسلام فقَدَ ما يُحرّك الوحدة بين معتنقيه بكيفية يسمح لمن يملك السلاح والمال أن يفعل بهم ما يريد ، ظانين أن امتلاك اسرائيل القنبلة النووية وما يجاريها من أسلحة الدمار الشامل ، يمكنها السيطرة والاتجاه لهدم الأقصى ولا أحد من هؤلاء المسلمين قادر على زحزحة مثل التخطيط اليهودي ، المصبوغ بطلاء الماسونية ، المغلّف بأوهام الاستيلاء على مقدرات العالم في جميع المجالات ، فلا مسيحية تأكل معهم ، ولا إسلام يزاحم شُربهم ، فأتت بعض صواريخ غزة العزة لتبدد حلمهم ذاك ، بل لتجعلهم يهرولون لمخابئ تحت الأرض خوفا وهلعا، كانوا أينما كانوا في بقعة اسمها اسرائيل لا تكفي ما تملك من مال وسلاح من إيقاف ما أحدثه  صاروخ”عياش”من خذلان اجتاحهم جيشاً وحكومةَ وحكماء صهيون . ليظهر أن الكيان الإسرائيلي هشّ متى واجه لغة يفهم معانيها جيّدا يطأطئ الرأس احتراماً رغم أنفه لها ،  أضف لذلك انتفاضة أهالي الضفة الغربية المباركة مكسرة سياج السلطة الفلسطينية للتعبير عن مشاركتها بما تملك وما تستطيعه في ملحمة معركة “سيف القدس”المقدسة ، وليطَّلع الاحتلال الإسرائيلي بالبث الحي المباشر ،  أن الفلسطينيين مد ممدود لتلقيح الأرض بعهد الصمود مهما لزم الأمر وبأي تضحية كالمُقدّمة في غزة العزة وأكثر منها بكثير ، حتى استئصال كل مظاهر البناء المزوَّر القائم على البهتان الذي ارادت به أذرع تلك الدولة الأخطبوط مصّ التراب الفلسطيني ضاربة عرض الحائط في استفزاز ومكر طال سبعة عقود ، بكل القوانين لتتبخّر حسب هواها ، وكأنها المقصلة تطال أعناق الآمنين للاستيلاء على أرضهم .

… اسرائيل تعلم منذ أيام قليلة فقط أنها لم تعد في نظر الغرب تلك المغلوبة على أمرها القائمة وسط أعداء يتطلعون لمسحها من جغرافية المنطقة وأنها اليتيمة الفاقدة حنان يبقيها على قيد الحياة . البداية من قلب أوربا “بروكسيل” التي يرى حتى اليهود داخلها ، أن اسرائيل لم تعد تناسب الاستقرار والسلام  لليهود قبل غيرهم ليس في الشرق وحده بل بالنسبة للعالم برمته ، ففي الوقت التي كان عليها الحفاظ  عمَّا خصتها به الظروف ممَّا لا تستحقّه من معروف ، على يد المملكة المتحدة ، وتوظيفه في نشر المودّة والتفاهم بين أصحاب الأرض والتاريخ ، وتقريب التسامح الديني بين العقائد السماوية الثلاث ، أخذت منذ الوهلة الأولى في زرع الفتن وخلق المؤامرات ، ليتسنى لها التوسّع بوتيرة غير مقبولة ، بل عزمت على امتلاك أفتك الأسلحة الموجهة ليس للدفاع عن نفسها بل لمهاجمة مَن جاورها لتفتيت عرى الدولة والأمة الفلسطينية العريقة المجد والحضور الحضاري المشرِّف ، حتى أصبحت المِعول الموضوع للهدم ، رهن اشارة من يغضّ الطرف عن تجاوزاتها الرامية للقضاء على فلسطين ، وملإ ما يُحتّمه فراغ ذاك القضاء ، لاكتساب أراضي توزِّع فوقها ما يُعدّ خرقاً فاضحاً لمن يتباهي بتطبيق القانون المانح الدول حقوقها الشرعية . ولتكون حربة في يد مَن سياسته اتجاه الشرق الأوسط ، سياسة امتلاك وتصرُّف مطلق ، و تشييد قاعدة يقف فوقها متى شاء ، وبالطريفة التي يضرب بها مَن شاء ، كما كانت عليه (ولا زالت ولو بحدة أقلّ) الولايات المتحدة الأمريكية في المقام الأول ، وما تابعها من دولٍ لا زالت تحن لفترة ، ما كانت الشمس لتغيب عن نفوذ إحداها لاتساع رقعة مستعمراتها بين القارات . “بروكسيل ” حيث يتوسع الغضب على اسرائيل يوما بعد يوم جراء ما يصل ساكنتها من صور فضائع جرائم قاتلة النساء والأطفال في غزة ، وكأنها ليست من البشرية في شيء ، بل دولة صهيونية دموية الطبع همجية التصرف خارجة عن قانون العقلاء ، يتّسع الغضب ليشمل كما ذكرت حتى اليهود ، التي حدثتني “البهلولية” بما يوضّح رغبة العديد من اليهود المغاربة المقيمين حاليا في مختلف المدن والبلدات المرفرفة فوقهم خرقة تتوسطها نجمة داوود ، عازمون على العودة لوطنهم الأصلي المغرب ، هروبا ممَّا صورته لهم  اسرائيل بجنة أرض الميعاد ، فاكتشفوا خلال الأسابيع الماضية أنها بقعة من هول ما يجري داخلها يتمزق كل فؤاد .

أوروبا تغلي أكانت في “ألمانيا” أو “النرويج” بما يفضح ممارسات اسرائيل ، ويعرِّيها أمام الإنسانية بأنها أبشع من بشاعة البشاعة ، وهي تقدم على هدم البيوت على ساكنيها في تحدي إجرامي  لا يهاب العقاب ولا يحسب للعدالة العالمية أي مقام يجب احترامه ، وإذا كان الرئيس الأمريكي “جو بايدن” يمهل “ّنتنياهو” حتى تحقيق أي انجاز يبقيه على رأس تلك الحكومة العبرية المنهارة حتماً ، فإنه سيقف ضد التاريخ الإنساني إن تماطل لتأخير صدور أي بيان موحَّد لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الذي ترأسه حاليا الصين .

… لقد استيقظ العرب يكفي التمعن في تلك الحشود المطوقة به اسرائيل أكانت منتسبة للبنان أو الأردن ، وما خرج به في مظاهرات معادية لإسرائيل  الشعب المغربي أكان في الرباط أو الدار البيضاء أو فاس أو غيرها من المدن المغربية المدافعة بمن فيها على الحق الفلسطيني ، وأيضاً لتحليل ما جري في “قطر” عامة و”الدوحة” خاصة التي احتضنت مهرجانا خطابيا غير مسبوق برئاسة السيد “هنية” رئيس الدائرة السياسية لحماس ، ليقف المحلل النزيه مشبعاً بمضمون الرسالة التي تجعل للأقصى من السيوف ما لا يمكن عدّها ولا معرفة الأماكن المسلولة فيها بعزيمة الجهاد من أجل ابقاء ذاك المسجد المبارك منارة عبادة أرادها العلي القدير الحي القيوم ذو الجلال والإكرام ، منفذ المؤمنين الصالحين الأوفياء لتعاليم القرآن الحكيم ، للجنة ونعم المقام .  

الدكتور عادل عامر يكتب عن : اللغة العربية مرتكز أساسي للهوية

تتميز اللغة العربية عن كل لغات البشر بأنها لغة العبادة، ولهذا انتشرت مع الإسلام في كل شبر وصلت إليه تلك الدعوة الخالدة، واستطاعت في سنوات معدودات أن تبتلع اللغات المحلية، التي كانت تتكلم بها شعوب كثيرة وكأنها عصا النبي موسى عليه السلام، التي ألقاها أمام السحرة فإذا هي تلقف ما يأفكون. وارتباط اللغة العربية بالدين الإسلامي ساعد كثيرًا على سرعة وازدياد رقعة انتشارها، كما اوجد التسامح في الإسلام رابطة قوية بين اللغة والهوية الثقافية. ويتمثل ذلك المبدأ الأثر النبوي الشريف الذي رواه المؤرخ والمحدث الشهير ابن عساكر:” ليست العربية من أحدكم بأبيه ولا بأمه، وإنما العربية لسان، فمن تكلم العربية فهو عربي”. 

وقد ألغى الإسلام العصبيات القبلية، وقضى على التفرقة العنصرية حين ساوى بين العرب والعجم، وحين أعلن النبي-صلى الله عليه وسلم- في سمع الزمان من خلال خطابه الشهير في حجة الوداع أنه لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى. وهكذا استوى تحت مظلة الإسلام سلمان الفارسي، وصهيب الرومي، والعباس ابن عبدالمطلب القرشي الهاشمي. 

ولم يكن عجيبًا أن يشمر غير العرب عن سواعدهم وأن يسعوا منذ فجر الدعوة الإسلامية إلى تعلم هذه اللغة وإتقانها، ودراسة خصائصها، واستلهام أسرارها، واستنباط قواعدها، إذ عليها “مدار أحكام الكتاب العزيز والسنة النبوية” على حد تعبير ابن عساكر في مقدمة معجمه الشهير” لسان العرب”. 

واللغة العربية، التي سارت مع المد الإسلامي الذي انطلق من شبه الجزيرة العربية، ابتلعت لغات كثير من الشعوب التي اختارت الإسلام لها دينًا، واللغة العربية لها لسانًا، فتكلمتها بطلاقة غريبه، واستطاعت أن تسهم في إثراء التراث العربي في مجالات الحياة المختلفة، في الطب والصيدلة والرياضيات والكيمياء والفلك، ولم تكتف بكل هذا فأسهمت أيضًا في الأدب واللغة والنحو. وفي عصورها الزاهرة استطاعت اللغة العربية أن تستوعب تراث الأمم القديمة من فرس وإغريق وسريان وغيرهم، وأن تقدمه للبشرية سائغًا شرابه، لذيذٍا طعمه، فأثرت الفكر الإنساني والحضارة الإنسانية في مجالات العلوم المختلفة البحتة والتطبيقية. 

وأثبتت اللغة العربية من ناحية أخرى أنها قادرة على استيعاب كل ثقافات الأرض حتى غدت في أواخر القرن الثاني عشر للميلاد لغة العلم والحضارة، وأصبح العلم يتكلم بالعربية لمدة تزيد على ثمانية قرون من عمر الزمان، كانت الأمة قوية فقويت معها لغتها. وأقبل علماء أوربا على تعلمها وترجمة تراثها العلمي إلى اللاتينية فيما يُعرف بعصر الاستعراب الأوروبي. 

ولم يكن مصادفة أن يبرز من بين الشعوب غير العربية، من يثري هذه اللغة شعرًا ونثرًا وتأليفًا في شتى المعارف والفنون. بل إننا ليأخذنا العجب حين نرى أن أعظم علماء العربية هو سيبويه الفارسي، وحين نرى أعظم شيوخ الحديث البخاري ومسلم والترمذي والنسائي، وكلهم من أصول غير عربية ومن بلاد شديدة البعد عن شبه الجزيرة العربية. 

ولعل مما يلفت النظر أيضًا أن شعوب الأرض التي ارتضت الإسلام دينًا لها قد ارتضت اللغة العربية لسانًا لها، وأن الشعوب التي حافظت على لغاتها كتبت تلك اللغات بحروف عربية، سواء في ذلك اللغات الإفريقية كالسواحلية واللغات الأسيوية كالفارسية والأوردية. 

وتمضي عجلة الزمن، وتتعرض الشعوب التي دخلت في دين الله أفواجًا، واتخذت لغة القرآن لها لسانًا، تتعرض لظروف عصبية، فتمتحن عقيدتها، ويتلعثم نطقها وتتعثر كتابتها. وفي وطننا العربي أصبحت اللغة العربية، التي كانت لغة الحضارة وأداة التنوير لعدة قرون، أصبحت شبه غريبة على أبنائها في هذا العصر الذي نعيش فيه، فتعثرت ألسنتهم وصارت عبئًا ثقيلًا عليهم في جميع مراحل التعليم، حتى وصلوا إلى الجامعة وهم لا يكادون يقيمون عبارة، ولا يحسنون التعبير بها عن ذوات نفوسهم. ومن الثابت أن اللغة وسيلة اتصال وتفاهم بين الناس، ومن ثم يصبح إتقانها ضرورة من ألزم الضرورات، وليس نوعًا من الترف كما يتوهم البعض. 

تأتي أهمية هذه الدراسة تزامنًا مع اليوم العالمي للغة العربية الذي يصادف الثامن عشر من شهر كانون الأول/ ديسمبر من كل عام، للتأكيد بأن واقع الأمة العربية المتأزم والمتخلف والمريض، انعكس على واقع اللغة بإهمالها من قبل أبناؤها وليس جمودها، كما تؤكد هذه الدراسة على كون اللغة القومية لأي أمة من الأمم هي عماد هويتها القومية. وتتوزع هذه الدراسة على عدة محاور: 

أولًا- اللغة وسيلة لإنقاذ الهوية: 

من المفيد هما أن نشير إلى ثلاث تجارب في التاريخ الحديث والمعاصر تم الاعتماد فيهم على اللغة لإنقاذ الهوية وحمايتها من التداعي. وهذه التجارب كانت مع اللغة العبرية واليابانية والكورية. 

كانت اللغة العبرية من اللغات الميتة، فقد نجح المتحدثون بها في إحيائها من الموات ولمها من الشتات. فمنذ منتصف القرن التاسع عشر قامت مجموعة من الشباب اليهود الأوربيين بحركة لإحياء اللغة العبرية. وكان من أشهرهم “أليعازر بن يهودا” الذي دعا إلى إحياء اللغة العبرية من خلال جعلها لغة التخاطب في الحياة اليومية، ونادى بشعار “لاحياة لأمة بدون لغة”. وفي سنة 1881م، هاجر إلى فلسطين مع زوجته وأسرته، وفرض اللغة العبرية لغة التخاطب والحديث بين أفراد أسرته، رغم أنها كانت لغة ميتة مثل اللغة اللاتينية، لا تستخدم إلا في الطقوس الدينية. ورغم سخرية الناس منه إلا أنه أسس رابطة للمتكلمين بالعبرية في فلسطين، وأصدر مجموعة من الصحف باللغة العبرية في القدس، وقام بإعداد معجم للغة العبرية أنجز منه تسعة مجلدات في حياته، وأكمله تلاميذه من بعده إلى ستة عشر مجلدًا. 

واستجابة لجهد “أليعازر بن يهودا” تم إنشاء مدارس تدرس كل موادها باللغة العبرية بما فيها التاريخ والجغرافيا والرياضيات وغيرها، وأنشأوا مراكز عديدة لتعليم لغتهم للمهاجرين الجدد، وتلقينهم أنها اللغة المقدسة “ليشون قاديش”. وحرصوا على ذكر المواقع والأماكن باللغة العبرية، فالضفة الغربية هي السامراء، وغزة يهودا، والخليل حبرون، وبئر سبع هي بئر شيفع .. إلخ. 

وانطلاقًا من دعوة “أليعازر بن يهودا” أصبحت العبرية الآن شديدة الحيوية كما أصبحت تشكل الهوية، وتدرس بها كل العلوم الحديثة في الكيمياء والفيزياء والصيدلية والطب والهندسة والعلوم الإنسانية، وتعقد بها المؤتمرات. وهكذا جسدت هذه المحاولة الناجحة تماسك الهوية من خلال لغة يتم إحياؤها من العدم. 

ومما يدلل على أهمية اللغة في توحيد أهلها، والنهوض بهم هذه الشعوب التي هزمت عسكريًّا، وتمسكت بلغتها؛ فاليابانيون مثلًا بعد هزيمتهم في الحرب العالمية الثانية خضعوا لشروط الأمريكيين في تغيير الدستور وحلٍّ الجيش ونزع السلاح وغير ذلك، ولكنهم رفضوا التخلي عن لغتهم القومية التي تمسكوا بها، واستعملوها في معاهدهم وجامعاتهم ودخلوا بها معتركات الحياة العلمية والصناعية المتطورة، وكذلك كان الكوريون الذين وقعوا تحت احتلال اليابانيين الذين فرضوا عليهم لغتهم، ومنعوا الكوريين من التعليم بلغة بلادهم، ولكنهم بعد تخلصهم من الاحتلال-بعد هزيمة اليابانيين في الحرب العالمية الثانية- وجدناهم اعتمدوا اللغة الكورية الفصيحة أساسًا للتنمية البشرية، وجعلوا في بلادهم لغة التعليم في مختلف مراحله، وتخصصاته المتنوعة، وكتبوا جميع اللافتات وأسماء المحلات بها فقط، وفي حال الاضطرار إلى كتابة أسماء أجنبية كما في لافتات السفارات والفنادق الكبرى جعلوها بالحروف الأجنبية الصغيرة تحت الحروف الكورية الكبيرة. 

ثانيًا- اللغة العربية والهوية: لا شك أن اللغة هي الفكر وهي الهوية وهي الماضي والحاضر والمستقبل. وتواجه اللغة العربية في الوقت الحاضر عدة آفات منها استعمال اللغة العامية، سواء في وسائل الإعلام، أو في لغة الباحثين والمذيعين والمحاضرين، وهي آفة مستعصية لا يسهل القضاء عليها. 

وقد غلبت لغة العامة حتى على لغة المدرسين والأساتذة في المدارس والجامعات، بخلاف ما كان عليه الأمر قبل، فقد كان المعلمون في المدارس الابتدائية لا يلقون دروسهم إلا باللغة العربية السليمة. ونعاين انتشارها أيضًا في شتى وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمنطوق بها وفي الإعلانات ولافتات المحال التجارية والمطاعم والمقاهي وغيرها، وما يبعث على الأسى استعمال العامية في مناقشة الماجستير والدكتوراه في كليات الدراسات العليا في الجامعات الرسمية التي أنشئت حديثًا في بعض الدول العربية مثل المملكة الأردنية الهاشمية. 

وتلك هي الآفة العظمى التي ينبغي التصدي لها. من خلال التوعية الاجتماعية، من طريق الإذاعة والتلفزة وإقامة ندوات تثقيفية وإلقاء محاضرات تحض على استعمال اللغة الفصيحة، وتكليف طائفة من الباحثين الاكِفاء إذاعة أحاديث في الإذاعة والتلفزة لتوعية الجماهير، وإعلامهم أن اللغة الفصيحة هي التي تجمع الأقطار العربية في وحدة لغوية تيسر التفاهم بين أبنائها، وإعلامهم أن الوحدة السياسية لا يتأتى تحقيقها إلا من طريق التوحيد اللغوي، وأن الانتماء إلى الأمة العربية يقتضي الاعتزاز بها والحرص على استعمالها في كل المجالات، وتذكير الجماهير في الوطن العربي بما كان للغتنا من شأن كبير في العصور المختلفة ولدى جميع الأمم التي انضوت تحت راية الدولة العربية الإسلامية. 

والآفة الثانية التي جثمت على مجتمعاتنا هي استعمال اللغة الأجنبية في التواصل بين الناس، وكأن اللغة العربية لم تعد صالحة للتفاهم بين أفراد المجتمع، وحرص المسؤولون العرب على استخدام هذه اللغات في المقابلات واللقاءات الرسمية، بل حرصوا على استخدامها في داخل الأسرة الواحدة. ومنذ عهد قريب نهض فجأة الرئيس الفرنسي الأسبق “جاك شيراك” وغادر قاعة مؤتمر أوربي لرجال الأعمال، وكان سبب غضبه قيام أحد رجال الأعمال الفرنسيين بإلقاء كلمته أمام المؤتمر باللغة الانجليزية وليس بلغته الفرنسية. وهذا أبلغ دليل على خوف الفرنسيين على لغتهم الوطنية. 

وبرغم أن اللغة العربية إحدى اللغات الرسمية المعتمدة في اليونسكو وفي هيئة الأمم المتحدة، فإن ممثلي الدول العربية يلقون بياناتهم باللغة الإنجليزية، واحيانا قليلة باللغة الفرنسية. وحتى في المنتديات والمؤتمرات التي تقام في عواصم الوطن العربي، ويشارك فيها الاجانب، يتحدث أبناء العربية باللغة الإنجليزية، فعلى سبيل المثال، عقد في أحد فنادق البحر الميت في المملكة الأردنية الهاشمية في شهر شباط/فبراير 2007م، مؤتمرًا يبحث استراتيجيات التعليم العالي العربية، وكانت اللغة الإنجليزية لغة المؤتمر المعتمدة مع أن عدد المشاركين الأجانب الذين لا يعرفون اللغة العربية في ذلك المؤتمر لا يتعدى العشرين من أصل أربعمائة مشارك كلهم من العرب، وكأن ذلك من دواعي الفخار، لا من إهدار الهوية والانسلاخ من الانتماء الذي يوحي به حديثنا باللغة القومية وهي المستودع الزاخر بالمعاني والأفكار والقيم. ومن هنا، هل يجوز القول: إن اللغة العربية كانت في مازق؟ إن مأزقها أبناؤها أنفسهم!. 

وهي (استعمال اللغات الأجنبية) آفة مردّها إلى مركّب النقص في نفوس مستعملي اللغة الأجنبية، والتوعية الاجتماعية من وسائل علاج هذه الآفة، بإقناع أفراد المجتمع بأن الأمة التي تتخلّى عن لغتها وتستعمل لغة أخرى هي غير جديرة بالبقاء. 

ولم يقتصر استعمال اللغات الأجنبية، والإنجليزية خاصة، على أفراد المجتمع بل تجاوزهم فطغى على لافتات المحال التجارية والفنادق والمطاعم وغيرها، وعلى الإعلانات الموضوعة في الطرق. ومن يسر في شوارع عمّان أو القاهرة أو غيرهما من العواصم العربية فعينه تكاد لا تقع على لافتة واحدة باللغة العربية، فكأن سمعة المحل لا ترقى إلا باستعمال الأجنبية. واستأثرت الشركات والمؤسسات العالمية بمنافذ العمالة، وجعلت اتقان اللغات الأجنبية شرطًا للتعيين بها، وفرضت ذلك فرضًا على التعليم. 

وفي أقطار الخليج العربي هيمنت اللغات الأسيوية الوافدة مع العمالة التي تستعين بها في مختلف الميادين والمجالات. ولا يقف التحدث بها عند حد هذه العمالة، بل انتشرت بين أبناء الخليج مما جعل اللغة العربية فيها لغة “هجين”، والخوف أن تصبح في المستقبل لغة الأقلية في أوطانها. 

وفي مجال التعليم، تلجأ كثير من المدارس الخاصة للتدريس باللغة الأجنبية، منذ الصف الابتدائي. في حين لا توجد في” إسرائيل” مدرسة واحدة تدرس بغير اللغة العبرية إلا إذا كانت لأبناء الهيئة الدبلوماسية في السفارات الأجنبية. فالعبرية في حالتهم ليس مجرد تواصل، بل أداة بناء الأمة. 

إذ يصعب على مواطنٍ ياباني، أو فرنسي، أو حتى ” إسرائيلي” أن يفهم كيف يمكن أن يولد أطفال لوالدين فرنسيين أو يابانيين أو ألمانيين أو ” إسرائيليين” ينمون وينشأون في بلدهم، ولكنهم لا يتحدثون لغتهم الأم، لا في البيت ولا المدرسة، ولا يدرسون العلوم في بلدهم بلغتهم، فالتحدث بلغة الأم والتعلم بها أمر طبيعي وبديهي في نظر مواطن تلك البلاد، لذا يعد الابتعاد عن اللغة الأم تبعد عن المساهمة في المنجزات الثقافية والعلمية للحضارة في عصرنا. 

ومن أهم التحديات التي تواجه اللغة العربية اليوم هو ما أطلق عليه مصطلح العولمة وهي أحد أساليب الاستعمار الثقافي والاجتماعي والسياسي، وهنا لا ننكر أن للعولمة جوانبها الإيجابية، ومنها نشر المعرفة والتبادل المعرفي والثقافي بين الأمم، وإقامة التواصل المعرفي بينها، ولكن من سلبيات العولمة تفوق إيجابياتها. 

ولهذا ابتكر أصحاب هذه الدعوة أسلوبًا للسيطرة على ثقافات الشعوب ولغاتها وهويتها وحضاراتها وأسلوبها ظاهره نشر المعرفة وباطنه السيطرة على الأمم ثقافيًّا ومعرفيًّا وسياسيًّا، فالعولمة من أخطر التحديات التي تواجه اللغة العربية، ولغتنا تتعرض اليوم لهجمات فتاكة من دعاة العولمة، وهم يزعمون أنها لم تعد صالحة في هذا العصر لأن تكون وعاء للتقدم العلمي والتقني، ومن الخير استبدال اللغات الأجنبية والإنجليزية باللغة العربية، بغية استيعاب المعطيات الحديثة، ودعاة العولمة يهيبون بالأمة العربية أن تجعل تراثها وراء ظهرها وأن تسير في ركب الأمم المتقدمة لتحظى بالتقدير والتقدم، ومن هنا الدعوة إلى إنشاء شرق أوسط جديد يغاير في مفاهيمه وثقافاته وتوجهاته السياسية ثقافة الأمة العربية. ونشير هنا إلى بعض معالمه ومشاريعه التي تهدف إلى طمس الهوية العربية: 

1- إعادة تعريف هُوية الدول العربية؛ نذكر على سبيل المثال العراق اليوم ينظر له بوصفه بلد مكونات، ويشهد محاولات لنفي هويته العربية، والامر ينطبق على السودان، الذي اضحى نهباً لمشاريع تقسيمية. 

2- المشروعات الرامية إلى استبعاد مصطلح العروبة والعربية والوطن العربي والأمة العربية، كمشروع الشرق الأوسط الجديد، ومشروع الشراكة الأوروبية المتوسطية .. الخ. 

3- المشروعات العاملة على استبعاد اللغة العربية من بين اللغات العالمية في هيئة الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها، واستبعادها من امتحانات الشهادة الثانوية على أنها لغة ثانية في فرنسا، واعتماد اللهجات العامية للأقاليم العربية” مثل إقليم المغرب العربي، وإقليم مصر والسودان، إقليم بلاد الشام والعراق، وإقليم الخليج العربي” 

4- المشروعات العاملة على تلقي مواد المعرفة باللغة الانجليزية في المدارس الخاصة والجامعات الخاصة في دول الخليج العربي، واللغة الفرنسية في دول المغرب العربي، والعاملة على تعزيز اللهجات الدارجة في القنوات الفضائية وعلى شبكة “الانترنت”. 

5- المشروعات الهادفة إلى التعتيم على الحضارة العربية الإسلامية، وتشويه التاريخ العربي وتزويره، والداعية إلى قطع العلاقة مع التراث” قتل الأب على حد تعبير دعاتها”. 

ثالثًا-اللغة العربية والانتماء: 

كما هو معروف فان الإنسان بطبيعته كائن منتمٍ، فلا يستطيع أن يشكل وجوده أو يعيش حياته بمعزل عن الآخرين. ولا يستطيع كذلك أن يبدع لغة خاصة تعزله عن سواه من البشر، الذين يشاركونه، أو بالأصح يشاركهم واقعهم الاجتماعي والسياسي والثقافي. 

وهذا الواقع المشترك الذي يفرض الهوية المشتركة، هو الواقع نفسه الذي يفرض الانتماء إلى هذه الهوية دينية كانت، أو لغوية، أو وطنية. والهوية لا تتأتى بين يوم وليلة؛ وإنما هي خلاصة تعايش طويل لقوم أو مجموعة أقوام تحدد، بمرور الزمن، مكانهم الجغرافي، وتحددت معالم لغتهم المشتركة وقواعدها، وتحددت معها طموحاتهم وأحلامهم، وصاروا بحكم ذلك التكوين منتمين بالضرورة إلى هذا المكان وهذه اللغة. وأي تصدع في جدار الانتماء لابد أن يصدر تصدعات واسعة في جدران الهوية والمكان واللغة. 

ومن هذا المفهوم، وبنظرة فاحصة إلى واقع الوطن العربي-المكان- فإننا نجد أبناءه يعيشون حالة من الانسلاخ العشوائي عن الانتماء إلى هويتهم العربية، ومقابل ذلك أو بسببه افتقد هذا الوطن المكان جزءًا كبيرًا من تضامن أبنائه، وكان رد فعل هذا الضعف في الانتماء إلى المكان، وإلى اللغة، إن ظهر في الواقع ما يجري من تصدع في جدران المكان العربي الذي يمتد من المحيط إلى الخليج، فانزرع في القلب منه الكيان الإسرائيلي بلغته وتوسعيته وطموحاته السياسية والاقتصادية وعدوانيته المتصاعدة. 

وفي هذا السياق كان الاحتلال الأجنبي قد استولى على الوطن العربي باستثناءات لا تذكر؛ خضعت بدورها لاحتلال غير مباشر، وفي السياق نفسه، وفي وقت قريب حدث الاحتلال الأمريكي للعراق بقوة الحديد والنار، وتحت مبررات تبقى واهية مهما حشد لها المحتلون من أعذار واسباب، وسوف يبقى ضعف الانتماء إلى المكان والهوية مدخلًا إلى مشكلات وكوارث يصعب توقعها، ويمكن إدراكها من ضمن المقدمات الماثلة. إن لم يسترجع العرب إيمانهم، ويعودوا إلى التمسك بانتمائهم إلى هويتهم الواحدة. 

وتكاد براهين ضعف تكون بلا حصر، وأما شواهدها فهي حاضرة في حياتنا العامة والخاصة، في مدارسنا وجامعاتنا وفي بيوتنا. ولعل التغريب بمعنى ترجمة اللفظ العربي إلى اللغة الإنجليزية ليسهل فهمه، وكأن اللغة العربية لغة غامضة، غير مفهومة، ولابد من لغة أجنبية مقابلة حتى يتم الفهم. من المظاهر الشاخصة على ضعف الانتماء. 

وقد يتدرج ضعف الانتماء إلى أن يصل- لا سمح الله- إلى درجة الاختفاء. وتتزايد هنا المصاعب التي تحول دون الانتماء الحقيقي والفاعل إلى اللغة الأم، لا في البيوت الفقيرة من المكتبات والثقافة العربية فحسب، وإنما في البيوت التي كان ينبغي أن تكون نماذج لتعزيز الانتماء وتقوية الصلة بلغة الأم والأمة. وهذا البرهان له أمثلة كثيرة في حياتنا جميعًا تكمن وراءه التعقيدات والمصاعب التي تعاني منها اللغة العربية. 

يضاف إلى ذلك ضعف الانتماء هو الذي زيّن للبعض القول بأن نقل أفراد الأسرة نحو الآفاق الجديدة والتفتح والنمو لا يتم إلّا إذا تجاوزت الأسرة العربية لغتها الأصلية، وشرع أفرادها في الرطانة. وكلّما زادت ضعف انتماء العربي إلى لغته وثقافته العربية زادت مخاطر التصدع، وتضاعفت التحديات التي تعاني منها اللغة العربية. 

ولحل أزمة اللغة العربية لتأصيل الهوية وتعميق الانتماء ومواجهة التحديات الآنية والمستقبلية، تجدر الإشارة إلى ما يلي: 

– تفجير الطاقة الكامنة في اللغة العربية، من خلال اجراء البحوث المعمقة لاستكشاف قدراتها وآدابها، وبما يسهم في تبسيط قواعدها. 

– الإفادة من الثورة العلمية التي تشهدها اللغويات الحديثة، إذ أفرزت من المناهج العلمية التي يمكن بها تناول الكثير من جوانب إشكالية اللغة العربية التي استعصت على الحل فيا مضى. 

– الإفادة من التطور التقني الهائل في هندسة اللغة، ومما تزخر به شبكة المعلومات العالمية (انترنت) من مواقع عديدة لتعليم وتعلم اللغة الإنجليزية للناطقين وغير الناطقين بها، وتطوير مواقه مشابهة لخدمة اللغة العربية. 

– تشجيع الباحثين في مجال نظرية الأدب وعلم النص الحديث والمعجميات والإنجازات، التي أثبتت جدواها في معالجة اللغة العربية آليًّا وخاصة في علم الصرف والنحو. 

– استخدام الحاسوب في بناء المكانز العربية. 

الخاتمة: 

من الحقائق المقررة أن اللغة العربية هي وعاء الأمة الفكر والذخيرة، ومستودع القيم الثقافية وكذلك الاجتماعية. وتوهين لغتنا وإضعافها، ونبذها وإحلال أخرى مكانها، قد يؤدي إلى بلبلة في فكر أبنائها وقيمهم العريقة، وفي معاني الهوية والانتماء. 

وإذا تخلى امرؤ عن لغته واصطنع لغة غيرها، فإن تفكيره وفكره يتحول شيئًا فشيئًا إلى مخزون تلك اللغة ودخائرها، ويرتبط تدريجيًّا بعادات أهلها وقيمهن ومع مرور الوقت يتحول انتماؤه إلى ثقافتهم، وقد يعجز-فيما بعد- عن التعبير عن شعوره وعواطفه بلغته التي تلقاها بفطرته وغريزته من أمه، ويستخدم تعابير اللغة التي جرفت ثقافته، وغيبت معالمه. 

إن حماية اللغة العربية من هجمات العولمة هي واجب قومي وديني في آن واحد، فاللغة العربية هي السياج المتين الذي يحميها من آثار العولمة، ومناهضة العولمة تستدعي توعية الجماهير العربية وتعريفهم بأهدافها الخبيثة وجوانبها السلبية، ومن واجب الأمة العربية حماية لغتها وتراثها وبيان الجوانب المضيئة في حضارة أمتنا وتاريخنا. 

*كاتب المقال

دكتور القانون العام

عضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان

مدير مركز المصريين للدراسات السياسية والقانونية والاقتصادية والاجتماعية

مستشار وعضو مجلس الإدارة بالمعهد العربي الأوربي  للدراسات السياسية والاستراتيجية بفرنسا

مستشار الهيئة العليا للشؤون القانونية والاقتصادية بالاتحاد الدولي لشباب الأزهر والصوفية

مستشار تحكيم دولي         محكم دولي معتمد      خبير في جرائم امن المعلومات

نائب رئيس لجنة تقصي الحقائق بالمركز المصري الدولي  لحقوق الانسان والتنمية

نائب رئيس لجنة حقوق الانسان بالأمم المتحدة سابقا

عضو استشاري بالمركز الأعلى للتدريب واعداد القادة

عضو منظمة التجارة الأوروبية

عضو لجنة مكافحة الفساد بالمجلس الأعلى لحقوق الانسان

محاضر دولي في حقوق الانسان