هل ألغيت الحرب مع إيران؟

وصل الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، أخيرا إلى ما يبدو أنه آخر قائمة “أعداء أمريكا”، الذين حاول التعامل معهم، ولم ينجح مع أي منهم تقريبا. أليس من المناسب الآن التعامل معه بجدية أقل؟

لقد هاجم دونالد ترامب الرئيس السابق للولايات المتحدة الأمريكية، باراك أوباما، لافتقاره القدرة على الحسم واتخاذ القرارات، لذا شرع ترامب في حل مشاكل بلاده المعلّقة لسنوات طويلة، مفعما باندفاع وحماسة الشباب وجذرية الحلول، فوقف أمامه العالم حابسا أنفاسه لما يمكن أن تسفر عنه الأمور.

حاول ترامب في البداية إرغام كوريا الشمالية على التخلص من ترسانة أسلحتها النووية، فأرسل إلى هناك القاذفات وحاملات الطائرات، لكن الكوريين أظهروا صلابة في مقاومتهم، واستمروا في إطلاق صواريخهم، فتحوّل عنهم دونالد ترامب إلى سوريا، تاركا بيونغ يانغ وشأنها.

في سوريا، أمطر ترامب سماء سوريا بالصواريخ الأمريكية، وفي أوج التوتر على الساحة السورية، افتعلت ما يسمى بـ “الخوذات البيضاء” استفزازا كيميائيا، ووجه الغرب أصابع الاتهام نحو الأسد، باستخدام الأسلحة الكيميائية. وفي لحظة بدا وكأن حملة عسكرية أمريكية أو حتى لحلف الناتو ضد الحكومة السورية على وشك أن تبدأ، لكن الصلابة التي تحلّت بها كل من موسكو ودمشق، دفعت دونالد ترامب للرجوع خطوات للخلف مع الوقت، والتحول إلى قضية جديدة.

كانت القضية الجديدة، هي الجدار الذي وعد ترامب ببنائه على حدود الولايات المتحدة مع المكسيك، حيث أقام ترامب الدنيا ولم يقعدها بشأن تلك الحدود، “فأغلق” الحكومة الأمريكية، وأعلن حالة الطوارئ إلخ إلخ، لكن الأمور لم تلبث أن هدأت، بينما استمر المهاجرون ويستمرون في التدفق إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وعادت الحكومة لتعمل بانتظام، أما الجدار، فقد تحول في النهاية إلى سور صغير، يبحثون له الآن عن تمويلات لبنائه من الموازنة العسكرية للبلاد.

ثم كانت تركيا، التي أصرّت، على الرغم من الضغوط الهائلة من جانب الولايات المتحدة الأمريكية، على شراء منظومات إس-400الروسية للصواريخ المضادة للجو، بل وأدت محاولات ترامب المستمرة لرفع مستوى الضغوط على تركيا إلى وضع الولايات المتحدة نفسها في مأزق، أصبحت واشنطن تخسر فيه ماليا وسياسيا، مع كل زيادة في الضغط على أنقرة، بينما سيمثّل تخفيف الضغط الآن حتما ضربة موجعة لسمعة الولايات المتحدة الأمريكية. لم تنتهي هذه المواجهة بعد، لكن تركيا تمتلك كافة أوراق اللعب التي تمكنها من كسب هذه المواجهة، بوصفها أحد اللاعبين المحوريين في سوريا، وتمثّل بالنسبة لواشنطن أهمية كبيرة، حال ازدادت حدة المواجهات الأمريكية الروسية على الجبهة الأوكرانية، لتحكّمها في مدخل البحر الأسود، وإمكانية غلقها هذا المدخل بالنسبة للسفن الأمريكية، لهذا يصبح احتمال تذلل ترامب لتركيا في عداد المفروغ منه.

كذلك فشل عدد من محاولات الولايات المتحدة الأمريكية لترتيب انقلاب في فنزويلا، لدرجة بدأت معها تلك المحاولات في الخروج من حيز السياسة إلى حيز الكوميديا، بل إن الرئيس الفنزويلي، نيكولاس مادورو، لاشك سيفكر جديا في دفع مرتب لغريمه، خوان غوايدو، حتى يستمر في ا لخروج بمظاهراته المناهضة، حتى لا ينضب الأمل لدى الولايات المتحدة، وتستمر في محاولاتها ولا تبدأ في العدوان العسكري المنفرد ضده. وقد أعرب ترامب لمستشاريه عن غضبه من وعودهم بسهولة النصر في فنزويلا، والتي اتضح فيما بعد أنها أضغاث أحلام، حينما اكتشف أن الوضع داخل فنزويلا أكثر صعوبة. على أية حال، خرجت فنزويلا من دائرة الأنباء، وبعد فشل الولايات المتحدة من جديد، تراجعت عن قضيتها.

كان من ضمن القضايا أيضا الحرب التجارية التي شنّتها الولايات المتحدة ضد حلفائها بما في ذلك المكسيك وكندا واليابان وتركيا والاتحاد الأوروبي. فقد وعد دونالد ترامب بفرض الكثير من الرسوم الجمركية الجديدة، بل وفرض بعضها فعليا. لكن أنباء ظهرت منذ أيام، تؤكد على أن الولايات المتحدة قد تراجعت عن تلك الحرب، وأعفت تركيا وكندا والمكسيك من الرسوم الجمركية المفروضة على الحديد الصلب. كما أجّل الرئيس الأمريكي، مرة أخرى، لنصف عام (وربما للأبد؟) فرض الرسوم الجمركية على السيارات المستوردة من الاتحاد الأوروبي واليابان.

بشأن الصين، تبدو الضغوط التي تمارسها الولايات المتحدة الأمريكية ضدها في ذروتها، لكن ترامب عوّدنا على أن يطلق وعودا مرعبة، ثم يؤجل تنفيذها الفعلي لفترة من الوقت. وبينما بدأت تلك الرسوم الجمركية أن تؤتي آثارا فعلية، أعتقد أن ترامب سوف يبحث الآن عن الطريقة التي يمكنه بها تخفيف هذه الرسوم أو إلغائها، لأن أمريكا سوف تتضرر من تلك الرسوم بدرجة لا تقل عن تضرر الصين.

لا شك أن كلا الحزبين داخل الولايات المتحدة الأمريكية يريان في الصين المنافس الاستراتيجي الرئيسي، لذلك فإن المواجهة معها هي مواجهة منهجية بعيدة المدى، وهي أيضا مواجهة حتمية ومرشحة للتصعيد. لكنني أظن أن الفرق الكبير بين التهديدات وإمكانية تنفيذها سوف يظهر هنا أيضا، بل أعتقد أن المقاومة التي سوف تظهرها الصين في قضيتها المصيرية ستدفع ترامب من جديد إلى التراجع إلى الوراء.

الآن يأتي دور إيران، وهي الأقل حظا بين الجميع، ذلك أن الإجراءات التي يتخذها ترامب حيال إيران تأتي بإملاء من اللوبي اليهودي، الذي لا يفتقد إلى الإصرار والمثابرة والترتيب، لذلك تصبح فرص إيران للإفلات من ترامب عقب الفشل الأول ضعيفة. لكن حتى بعد تحريك أمريكا لقاذفاتها وحاملة طائراتها وغيرها من الخطوات الاستعراضية الأمريكية، والتي جعلت احتمالات الحرب في المنطقة تبدو حتمية، وفي ظل إظهار طهران لصلابة في مواقفها، أعرب دونالد ترامب مؤخرا عن عدم رغبته في خوض الحرب، وأن هدفه من خطواته العسكرية لم يكن سوى دفع الإيرانيين إلى الجلوس إلى طاولة المفاوضات. هنا قد لا تكفي المجهودات الثنائية التي تبذلها الرياض وإسرائيل لدفع الولايات المتحدة الأمريكية إلى الحرب، لكني أعتقد أن استفزازا عارضا كبيرا يمكن أن يغيّر من عادة ترامب التراجع عند مواجهة المصاعب.

لقد حالف النجاح ترامب في قضية واحدة، ألا وهي نقل سفارة الولايات المتحدة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، والاعتراف بالجولان، في الوقت الذي لا يستطيع فيه الفلسطينيون، أكثر شعوب الأرض عجزا فيما أرى، مقاومة تلك القرارات بشكل مناسب. وعلى الرغم من ذلك فإن مقاومة الشعب الفلسطيني لا زالت مستمرة منذ عقود، ولا يوجد سبب يجعلنا نعتقد أن الصراع قد انتهى، وإنما ذلك في الأغلب هو “نصر” مؤقت لترامب.

على كل الأحوال، لم يتبق من قائمة “أعداء أمريكا” أحد، وأصبح أمام الرئيس الأمريكي إما تغيير طريقته في التعامل، أو معاودة المحاولة والبدء في محاولة مواجهة قائمة الأعداء من جديد بالطريقة القديمة، لكنهم يعرفون الآن جميعا، أن أي مقاومة من جانبهم، سوف تدفع الرئيس الأمريكي لترك قضيتهم والتحول إلى القضية التالية، التي سوف يتركها أيضا مع أول مقاومة. وسوف تبدو محاولات ترامب الآن لبث الرعب في نفوس خصومه أقرب لإثارة الابتسام والسخرية من أي شيء آخر، حيث آن الأوان للرئيس الأمريكي أن يتوقف عن تغريداته على موقع “تويتر”، وربما أن يذهب للعب الغولف، مثل أوباما…

أعتقد أيضا أنه قد حان الوقت للتعامل بهدوء مع كل ما يقوله دونالد ترامب، فعلى الرغم من السلطة الهائلة والإمكانيات الضخمة التي يحوزها الرئيس الأمريكي، إلا أننا نرى، بالتجربة العملية، أن ما بين الأهداف المعلن عنها في البداية، وبين نتائج الأفعال على الأرض بون شاسع، هذا بالطبع إذا كان هناك نتائج بالأساس.

المحلل السياسي/ ألكسندر نازاروف

المقالة تعبر فقط عن رأي الصحيفة

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.