سعد الساعدي يكتب عن : اليوتوبيا في الشعر العراقي ..الشاعر عامر الساعدي نموذجاً

جزء من دراسة نقدية تصدر قريباً لديون الشاعر عامر الساعدي الخامسة جوعاً بعنوان انتفاضة الشعر الحقيقة

الحاجة لطرح اية قضية صنعت قوة واقعية يتبناها الشاعر كرغبة انسانية من الخيال والحلم والامنيات التي ينطلق بها متجاوزاً الوجود الى جنة يستحقها الفقراء الجياع من أجل سعادة حتى وإن جاءت متأخرة عبر اللامكان الذي هو المعنى الحرفي لليوتوبيا .
إنْ أمكن تجاوز عقبات واقعية حقيقية عن طريق الحلم الى المستقبل المنشود مع كل مواقع الازمات ، خالية من تفاصيلها الكمية والكيفية بوصف المأساة وما يتخللها حضورياً بقصيدة ، أو رؤية فنية ، أو طريقة تُحل بها مشاكل مجتمعية اقتصادية كانت سبب البلوى ؛ فان ذلك أهم ما تسعى اليه اليوتوبيا في البناء الدرامي والوصفي الشكلي العام كفلسفة موقتة من جانب تضع التصور المطلوب للمشكلة ، وطريقة تمازجية تنشد الخير بعيداً عن ضدها مدينة الفساد والقهر والجوع والاستبداد ، أو ما يعبر عنها النقيض ( الديستوبيا ) .
قد يكون الخيال أحد الاركان التي أرتكز عليها الشاعر عامر الساعدي باجزاء من قصائد ديوانه السردية ( الخامسة جوعاً) الصادر عن دار المتن عام ٢٠١٨ للدعوة بتبني جنة أرضية للفقراء الجياع تعجز كثير من الموازين عن تحقيقها واقعياً بوجود مجتمع فاسد ينتقص لقيم العدالة والمساواة ، وكغيره ممن كتب في هذا المجال يحاول ترجمة نصوصه الى حالة انسانية تتنبأ بعيش كريم ، يقترب من مجتمع يسعى للخير رغم اختلاف معايير قيم الخير من مكان لآخر ومجتمع لآخر ، لا شرّ وقحط وجوع فيه وليس التنبؤ بنهاية قاتمة مرعبة تنتهي عندها كل صور الجمال لتضمحل وتذوب لاحقاً؛ وهنا الشاعر لا يسعى لخلق مدينة فاضلة أو جنة الخلاص الموعودة بقدر ما يدعو للتخلص من ظلم الفاسدين ، والثورة على قيمهم البالية بانتفاضة شعرية تحدد معالم طريق الخير والسعادة ؛ بكلمات هادئة، كمفكر ابن يومه وواقعه و كصحفي يعرض تقريره بشكل موجز وصادق من أجل كشف الحقائق للرأي العام بوجود ضغط واقعي وصعوبة في التغيير وليس بثورة بركان عظيم تسحق كل من يقف أمامه ، لذا فلن تتوقف هنا أو هناك تلك اليوتوبيا مادامت هواجس النفس ومشاعرها تتجدد كل حين وهي تتصارع من اجل الانعتاق ونجاح المشروع التنويري .
نحاول هنا استلال بعض المقطوعات حين نقف على بعض النصوص ونتعرف على ماهياتها كمتوقع مُتَصور ، وأمنيات خالدة قادمة من بعيدة كتبها الشاعر أحلاماً تنتظر الضياء ..
في النص الذي يحمل عنوان ( شبح الضوء الميت ) نجد صوراً كثيرة لأمنيات المدينة الفاضلة ومن أهمها نهايات النص :
( أرسمُ ربيعاً يلعبُ فيه إخوتي وهم يرسمونَ طموحَهم بعيداً عن الحربِ بأقنعةٍ ضاحكةٍ تبتهجُ بوجهِ مذيعِ نشرةِ الأخبارِ اليوميةِ وبلحظةِ صمتٍ يذيعُ خبرَ موتِ الفصولِ ، أرى النجومَ تركضُ خلفي كنهرٍ من الضوءِ ، يصدرُ صوتُ النهاياتِ بوجهِ المسافةِ الممتدةِ بين الكتمانِ والعلنِ؛ بين الخديعةِ والدهشةِ . أرى كوكباً مضيئاً يركضُ في مداراتٍ نائيةِ العتمةِ، غامضاً دون اسمٍ يذكرُ في سجلِ الفلكيين لكن من أينَ جاءَ وهو يدخلُ مجرتَنا ) .
في ( الطقس ) يصور لنا الشاعر اتجاهاً آخر من مدينته الفاضلة أو لنقل اُمنياته المتخيلة ويرصفها مع الانتظار الذي لا تعرف ساعة نهايته ، والوصول الذي لا تعرف ساعة مقدمه :
( تَقُولُ اِبْنَةُ المدِينَة: الصَّوتُ القَادِمُ مِنْ خَلفِ الأَسْوَارِ، صَوتُ رَجُلٍ شجِيَ النَّغْم ، يُرَدِّدُ مَعَ العَصَافِيرِ أُغْنِيَّةَ الصَّبَاحِ ، كَعُصْفُورٍ يَضرِمُ النَّارَ بِالأَقفَاصِ، رَجُلٌ وَجْهَهُ كَاِنْفِجَارِ الضَّوءِ المُلَوّنِ، تَحتَ جِلدِ النَّهَارِ، متأججُ الحُبِّ مُشتَعِلُ الجُنُونِ يَحْكُ أَصَابِعَهُ بِكَتْفِ الشَّجَرَةِ لِيُوقِظَ نَقَّارَ الخَشَبِ مِنْ كَسَلِهِ النَّائِمِ لَكِنْ مَنْ يَفُكُّ حُزْنَ مَدِينَةٍ دُمُوعُهَا بَلَّلَتْ الأَرْصِفَةَ المُمَزِّقَةَ مِنْ الاِنْتِظَارِ ؟ ) .
في ( أفواه بثوب الحداد ) تتغير الصور وتأخذ منحى ثانياً في التدرج واللون والمعنى ، لكنها ضمن صيرورة البناء العام والسرد المفعم بالأمل والغارق بالمأساة :
( رُحْت أجْمَعُ الخَبزَ ، حِينَمَا سَقَطَ على بَابِ اللهِ ليلاً ) .. ( أرغَبُ بِرُكُوبِ القِطار الذي يَمرُّ على المُدُنِ المُنتَعِشَةِ بِالأطْفَال ) .. (عُذراً أيهَا الرَّبّ لَمْ أدرِكْ إلّا الآنَ أنَّي بِذِراعٍ واحِدَةٍ وقلبٍ كسيح بَعضُ نَبَضاتِهِ تَذهَبُ بِأدراجِ الرِّيحِ ، لكِنَّي أحَاوِلُ أنْ أزرَعَ فتَّاتَ الخُبَزِ بِذِراعي الأخرَى ريثَمَا تَخرُّجُ على شَكلِ شَجرةٍ ) ..( أفكِّرُ بِطَرِيقةٍ لِلحصَّادِ كي أجمَعَ بَقِيَّةَ العَصَافِيرِ ..) .
في حين نجد الشاعر كيف وظّف رمزية معينة في رسم نص صوري للجوع فيه مكان ، وللحياة فيه مسلة ، وللبشر فيه اختيار. في نص (الخطى) وصل الشاعر الى حالة حاول من خلالها الخروج عن المألوف في كل شيء حين احتلت السلحفاة ( كرمز ) موقع البطولة :
( لِتُسَيِّرَ صَوْبَ قَسْمِ الخُلُودِ ، صَوْبَ اللاشيء المَفْقُودِ ، وَبِكُلِّ خُطْوَةٍ أَمْنِيَّةٍ، صَوْبَ كَنْزِ الأَمْنِيَّاتِ وَهِيَ تَعْصِرُ لَيْمُونَ الدَّهْشَةِ المتناسلِ بِالأَشْجَارِ الغافيةِ بِالأَحْلَامِ ) .
في ( خبز برائحة الدخان ) نجد كذلك مشهد مكرر لحلم وربيع قادم:
( سَأُخَلِّعُ جِلْدِي اليَابِسَ بِدُخَانِ الكَوْكَبِ المُحتَرِقِ قَبلَ أَنْ تأْكُلَهُ جُمُوعُ الجَرَادِ الأَخْضَرِ، قَبلَ أَنْ تَسْتَفِيقَ الطَّبِيعَةُ لِتَدْفَعَ بِصَدْرِهَا كَارِثَةً علَى كَفِّ مَآتِمِ المَدِينَةِ .. ) .
ورغبة بحياة بعيدة عن الزخارف والبهرجة : ( وَأَحْرقَ بَعْضَ الحَطَبِ لِأُغَطِّيَ عُيُوبَ دَمعِ العِينِ ، بَعِيداً عَنْ اعتلاءِ العُرُوشِ وَاِقْتِنَاءِ الجَوَارِي ، وَاِرْتِدَاءِ التِّيجَانِ ، وَالتَّزَيُّنِ بِحَرِيرِ القَزِّ سَأَعْتَلِي الرَّغْبَةَ علَى حِمَارِ الأَسْفَارِ دُونَ لِجَامٍ ..) .
أما في ( نشوى مرتبكة ) هناك تجريد واضح الانطلاق اراده الشاعر بلا تكلف ، وباختيار متقن وصف العشق والجمال المتماوج بين لون ولون ، وبين الرغبة المختبئة تحت أزمنة اجساد ممزقة تنتظر الأمل يختمه بقفلة فيها نهاية موسومة بشيء اسمه خطوط متعرجة :
( سَأرسُمُ لونَ السماءِ حَولَ جسد الأرض، وأدَغدِغ بِريشتي أصابِعَ الصحــــــراء، بَعدها أتَعرى مِن خَجلي لأنامَ بِحضنِ الغابة أتصورُ أغصانَ أشجارِها ذِراع حسناء .. ( وأرسُمُ وجهَ حَبيبتي وأرسُمُ جَسدها على لوحةٍ مُجردة بِشكلِ خُطوط مُتَعرجة ) .
يمكن لنا في كل نص من نصوص الخامسة جوعاً أن نجد الحلم في حياة فاضلة ومدينة فاضلة ؛ بين الاخلاق واللامبالاة ، والغريزة والعاطفة ، وشهوة الروح للانعتاق من الذلّ والهزيمة ، وشهوة اللذة الحميمة القابعة بين طيات الجسد، وبين كل ما قيل عن مأساة البشر ، أي بشر مهما كان جنسه يحيى فوق هذه الارض ، لأنه انسان ارتبط مصيره بها ، كما لو أنه ابنها البار الذي يستحق منها كل خير وهناء ، لكن الشرّ هو من أهاج ريح الدخان فالتهبت الأرواح تبحث عن خلاصها ، واضحى الجميع ينتظر بريق الشمس بلا مواربة تامة ..

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.