قصة قصيرة بعنوان :  الضحية..بقلم : محمد علي ابراهيم الجبير

في أحد ايام الشتاء الباردة والمظلمة ، وقبل  وصول المؤذن كاظم للمسجد ، للآذان لصلاة الصبح ، سمع صوت صراخ طفل ، وكلما تقدم باتجاه المسجد يزداد ذلك  الصوت ، وعند وصوله لباب المسجد المضاء بمصباح كهربائي ،  وجد  طفلاً صغيرا ملفوفاً بقطعة من القماش  مطروحاً على الارض وهو يصرخ من البرد؛؛

التفت كاظم يمينا وشمالاً لعله يجد احد ، لكنه لم يرى احد و كان الشارع خالي من الناس تماماً..

ادخل الطفل للمسجد ونزع عباءته الصوفية الدافئة ولفه بها ، وهزه مرة ومرتين على اثرها نام الطفل ..

وبعد ان انهى الآذان و حضر بعض المصلين،  تألموا لمنظر الطفل الذي ترك بباب المسجد في هذا الجو البارد ، والهواء القارص، دون رحمة او انسانية ..

عرفوا أن هذا الطفل الملقى بباب المسجد ،  غير شرعي لفتاة    سلمت نفسها  لشاب عديم الشرف استطاع أن يقنعها بأنه يحبها وسوف يتزوجها ، وبعد ان نال منها مايريد ، تركها وتنصل من  المسؤولية  عندما حملت منه ؛؛

وهذا التفسير المنطقي لهذه الواقعة لحدوث وقائع كثيرة مشابه لها ، ولايوجد تفسير غير ذلك لها ؛؛

ومن المؤكد بان هذا الطفل لأحد الشباب عديم الشرف والناموس  ، ضحك على فتاة بكلامه المعسول ، واقسم لها بانه سوف يتزوجها وتكون زوجةً له، وبعد أن حصل على مرامه منها تركها بلا رحمة لانه في الاساس معدوم الشرف والضمير؛؛

والعتب  كل العتب على الفتاة  التي تسلم نفسها و شرفهاوسمعتها،

لمثل هذا الانسان المتوحش ؛ مخالفةً للدين الذي ينهى عن مثل هذه الاعمال ، ومخالفة لكل الاعراف الاجتماعية المعروفة لدى الجميع

 وأن هذا الوغد بمجرد أن عرف انها حامل ، تنكرمن عمله وتخلى عنها خوفاً من نتائج عمله المشين ،وتركها  تعاني من هذه المشكلة الكبيرة ،وخائفة من انفضاح امرها ،ومن القتل لان اهلها اذا عرفوا انها حامل لن يسامحها احد منهم ، وتقتل من اقرب الناس لها فوراً،  واكثر خوفها من اخيها ..

 ومن حسن حظها لم ينتبه  لها احد من اهلها ولم  يلاحظها احد منهم ويعرف انها حامل ؛؛

أما هي فقد لازمها الخوف والقلق ليلا ونهاراً..

 و بين فترة واخرى تذهب لهذا الشاب المارق ، وتتوسل اليه ، وتنزل على رجليه تقبلها وتقول له  :

– ارجوك ان تخلصني من هذه الورطة ، وسوف يقتلني اخي او ابي عندما يعرفون انني حامل؟

– ماذا تريدني ان اعمل ؟

– ارجوك ان تخطبني من اهلي؛ وتنقذ حياتي ؛

– كيف اخطبك ؛هل تريدني ان اتزوجك ؟  وانت أسلمت نفسك لي بأرادتك ؟

– الم تقل لي بانك تحبني وتريد ان تتزوجني ؟

– كلام اردت به ان اصل به الى مرامي منك ؟ وقد اخذت ما اريد؛

– وكلامك لي  وحبك ويمينك  كله كذب ؟                            -نعم : كله كذب في كذب ،  اذهبي ولاتقربي مني مرة اخرى؛ وإلا فضحتك امام الناس واقول انك تريدين مني ان اخطبك وانت حامل من شخص اخر ؛؛

عرفت انه سافل، ولايملك من الرجوله والشهامة اي شيء،

رجعت الى اهلها ؛نادمة اشد الندم ،وهل ينفع الندم ؟ بعد ان باعت نفسها لشخص معدوم الضميرلايعرف الرحمة ولايعرف الصدق  باعت شرفها بلا ثمن ؛؛

 وبعدعدة اشهر،قضتها في حيرة وحذروخوف من اهلها استطاعت اخفاء الحمل طيلة هذه المدة ؛؛

احست باوجاع الولادة الحادة في تلك الليلةالباردةالمظلمة والممطرة خرجت من البيت دون أن يشعر بها احد ،بعد ان توقف المطرواخذت معها قطع من القماش ، وسكين صغير حاد كانت اعدتهما مسبقاً ؛؛

  لاتدري اين تذهب ؛ وبعد أن مشت مسافة طويلة بهذا البرد القارص بدون هدف وفي منتصف الطريق جاءها المخاض ..

لجأت الى احد ابواب البيوت المنارة بمصباح كهربائي ، وتحت ضياءه ولدت مولودها عرفت انه ولد ، قامت بقطع  الحبل السري (سرته)  بالسكين الذي معها ولفته بقطع القماش  بشكل جيد ولفت رأسه ايضاً وواصلت المشي باتجاه  المسجد على ضوء البرق..

وتأكدت بعدم وجود اي شخص ولاتسمع اي صوت سوى صوت الهواء البارد؛اضطرت ان تتركه في الشارع بباب المسجدعسى ان يأخذه احد المصلين ، أو يسلموه الى دار الايتام ؛؛

على تلك الارض المشبعة بمياء المطروالهواء البارد جداً لايستطيع اي شخص ان يقف في الشارع  لحظات من شدة البرد ..

  تركته امه  امام باب الجامع وذهبت  الى اهلها وهي لاتصدق انها خلصت من الفضيحة والقتل المؤكد ؛؛ دخلت لبيت اهلها و لم يشعر بها احد ايضاً من اهلها، وسارعت الى غرفتها وأغلقت الباب عليها، ونزعت ثيابها،الملوثه بالدماء من جراء الولادة ، وهي ترتجف من البرد ، لبست ثوباً  اخراً ، واندست في فراشها الدافيء   وولدها المسكين  يعاني من شدة البرد ؛؛

واصبحت في غاية الحزن والألم ،وتبكي بحرقة دون صوت ، وعبرتها في صدرها تخنقها ، ودموعها تنزل على خديها كالجمر؛؛ وتلعن الساعة التي تعرفت على ذلك الشاب السافل  الذي غدر بها

وتلوم نفسها على غباءها ، وتتذكر كيف ضحك عليها بكلامه

المعسول ويمينه الكاذب بان يتزوجها وصدقته ووهبته شرفها ..

 هل ينفع  اللوم والندم بعد ان فقدت عفتها وشرفها ودمرت حياتها،

ولم تنم في ذلك الوقت ، رغم انها سهرت الليل كله وعانت ما عانت من اوجاع الولادة ؛؛ وبقيت تتقلب في الفراش وتستعرض الفترة التي مرت عليها وهي حامل ، خائفة من اخيها ومن والديها

وتذكرت ذلك اليوم الذي فاجئتها والدتها بسؤالها: يا ابنتي ارى بطنك كبير ؟ وهذا السمن يؤثرعلى رشاقتك ؟ ولم يخطر ببالها أمها بأن ابنتها حامل ؟ تذكرت كيف  شعرت بان الدم جمد في عروقها من الخوف ؛؛ ولم تتنفس الا بعد أن استمرت والدتها بالكلام واوصتها بان تقلل من الاكل خوفاً من السمنه ؛؛

وكان كلام والدتها كجرس انذار لها ،قامت على اثره بإرتداء الملابس الواسعة من أجل ان لايظهر بطنها الذي يكبر يوما بعد ؛

كل ذلك تذكرته وهي تتقلب على فراشها ، كأنها نائمة على الجمر

وبهذا الاسى والالم اهتدت الى قرار يخلصها من الفضيحة والعا ر،  بأن لاتتزوج مطلقا ، لكي لايطلع على سرها احد..

غلبها النوم وبقيت نائمة الى وقت الظهرولم تستيقظ الا على صوت والدتها وهي تطرق عليها الباب وتناديها  لغرض تناول الغداء ؛؛ نهضت وهي تفكر بولدها المسكين الذي تركته ، وهي تقول في نفسها ،هل اخذه احد ، هل هو حي ام ميت ، وغيرها من الاسئلة التي اشعلت النارفي عروقها ،ولكنها لاتستطيع ان تتفوه بكلمةواحدة

مؤذن المسجد الرجل الطيب متزوج من اقاربه ، يعيش مع زوجته وبناته الثلاثة اصغرهن عمرها شهر .

قرر ان يتبنى الولد ليكون اخاً وسنداً لبناته الثلاثة ، بالرغم من عسر حالته المادية ، (بعد ان تأكد  بعدم  وجود رغبة عند أحد من المصلين ) بأخذ الولد وتربيته ؛؛؛

( واجمع الكل بان يسلم الطفل لدار الايتام) ..

المؤذن كاظم رجلا طيباً حنوناً رحيما ً، يعمل في السوق لبيع الخضار يعيش مع عائلته بما يحصل عليه من بيع الخضار،كان مؤمناً واثقاً بان الله يرزقه من حيث لايحتسب ، لهذا قرر تبني الولد عسى ان يكون باراً به وبزوجته التي سوف تربيه ورزقهم على الله

وبعد ان خرج جميع المصلين ولم يبقى في المسجد سواه ، نظرالى

الى الولد الذي لايزال نائماً؛؛ رفعة من الارض ووضعه على صدره وقبله؛؛وحمد الله كثيراً على هذه النعمة ،جاء الى بيته حاملا الولد دون ان يعلم احد به ، وسلمه الى زوجته التي فرحت به ، وقالت له : هذا  الولد رزق اساقه الله لنا ، وسوف ارضعه مع ابنتي ويكون اخاً لبناتنا واقوم يتربيته احسن تربية باذن الله ليكون سنداً لنا في المستقبل ؛؛

في اليوم الثاني حصل على شهادة لميلاده وسجله في سجل النفوس باسم (مرزوق كاظم ) بنفس تأريخ ولادة ابنته الصغيرة، حتى لايعترض عليه احد ؛؛

وأصبح لقب المؤذن كاظم ( ابو مرزوق )..

حلت البركة في رزق ابو مرزوق من اول يوم دخول الطفل لداره

مرت الايام ومرزوق في عناية امه التي رضعته و ربته وسهرت

الليالي عليه ، وعندما اصبح عمره سبعة سنوات ، ظهرت عليه علامات الذكاء والنباهة ، وكان يتصرف وكأنه ولداً كبير، يخاف على اخواته ، يذهب الى السوق يساعد اباه في عمله ببيع الخضروات ، ويأخذ لهم  مايحتاجه البيت من الخضروات، وما تطلب امه من حاجات  اخرى من السوق ..

احس ابو مرزوق بالبركة في كل شيء ،وتحسنت احواله المالية  كثيراً ،

ادخله والده  الى المدرسة ، وكان متفوقاً على اقرانه ، وحصل على اعلى الدرجات، واستمر على ذلك الى ان اكمل الدراسة الاعدادية ، كما اكمل الدراسة العليا وحصل على شهادة البكلوريوس في كلية الادارة والاقتصاد ، واصبح شاباً قوياً يساعد والده في عمله  الذي توسع كثيراً..

قال لوالده في احد الايام :

-هناك محل كبيرمعروض للبيع ، ارى ان نشتريه ونحول البيع من المفرد الى البيع بالجمله؛

-لامانع ياولدي وكما تريد؛؛

– سوف اذهب وأشتري المحل باذن الله ..

وفعلا تم شراء المحل وباشروا العمل به الذي توسع كثيرا وتحول من محل صغير لبيع المواد الغذائية بالمفرد الى محل واسع جدا لبيع المواد بالجملة ..

وتم تشغيل عمال في المحل ، واصبحوا من التجار الكبار،وانتقلوا من بيتهم القديم الى بيت جديد تم بناءه على الطراز الحديث وبمساحة كبيرة ، تحيط به حديقة من جميع جوانبه  ، يقع البيت  في منطقة متميزة على شارع النهر ،  في منتصف المدينة ..

لم يبقى في البيت سوى والدته ووالده،بعد أن تزوجت اخواته الثلاثة

اعلنوا عن حاجتهم الى خادمة ، لديها خبرة في اعمال البيت ،

ام مرزوق التي ولدته وتركته في الشارع في تلك الليلة المظلمة والباردة ..

توفي اخاها الوحيد بحادث سيارة ، وبعد ايام من الحزن والبكاء عليه ، داهم المرض والدتها ، وتوفيت بعد ايام قليلة من مرضها لم يتحمل الوالد فقد ولده الوحيد ووفاة زوجته الطيبة ، ومن حزنه  واسفه ، اصابه المرض والوهن ،  واصبح طريح الفراش ..

ولم يخرج للعمل لتدهور صحته ، ولايوجد لديهم اي شيء  ، لشراء ما يحتاجونه من اكل وشرب وعلاج للرجل ، قالت له ابنته:

– لم يبقى لدينا مال نشتري به علاج لك او نشتري ما نحتاج له  من اكل وشرب؛

 -الله كريم ، لكن لايوجد امامي حل سوى بيع البيت ، ونؤجر بيتاً

 اخر في اطراف المدينة  نسكن فيه ..

 – يا ابتي اذا بعنا البيت وانت بدون عمل ، سنصرف ثمنه ولم يبقى عندنا شيء ؛ وبعد ذلك ماذا نعمل ؟؟

  -الله هو المدبر؛

تم بيع البيت وانتقلوا الى بيت آخرفي اطراف المدينة  بايجار بسيط 

واستمرت مصاريف المعيشة، وزادت تكاليف العلاج ، لتدهور صحة والدها..

لم يبقى من ثمن الدار الا مبلغا بسيطا ً، وفي احد الايام تدهورت صحة والدها ، واتنقل الى رحمة الله ..

اخذت تفكر بحالها كيف تدفع الايجار ، وكيف تواجه المعيشة اهتدت الى حل وهو ان تشتغل خادمة في احد البيوت ؛؛

 سمعت ان بيت مرزوق التاجر بحاجة الى خادمة ؛؛

 ذهبت الى بيت ابو مرزوق : طرقت الباب خرجت ام مرزوق  وفتحت الباب استقبلتها ام مرزوق بالترحيب :

قالت لها اهلاً وسهلاً، هل انت بحاجة الى شيء اقدمه لك  ؟ :

–  سمعت انكم بحاجة الى خادمة ؟

– نعم نريد خادمة .

– هل تعرفين اعمال البيت؟

– نعم اعرف كل اعمال البيت؛

– اين تسكنين ؟

– في اطراف المدينة في بيت ايجار اختاره  والدي رحمه الله ،

– وحالياً مع من تسكنين ؟

-اسكن لوحدي بعد ان مات اخي ووالدتي واخيرا ابي ،وبقيت وحيدة ولااملك اي شيء ، وعرفت انكم بحاجة الى خادمة ، جئت لكم ، اشتغل حتي اسدد الايجار واوفر مصاريف الاكل والشرب؛؛

تعاطفت ام مرزوق الطيبة عليها وتالمت لظروفها ووافقت على ان تكون خادمة عندهم بعد ان عرفت ان والدها ووالدتها متوفيان واخيها الوحيد توفي في حادث سيارة يقودها شاب متهور ، ولا يوجد لديها  اقارب ولامعين ،  تسكن لوحدها بعد موت والدها ووالدتها في بيت ايجار، وجاءت تطلب العمل لعدم وجود امكانية لدفع مبلغ الايجار،واكملت ام مرزوق الطيبة  الكلام معها وقالت لها :

– ما اسمك ؟

– اسمي صبرية ؛

-اكيد تعرفين اعمال البيت كلها ؟

-نعم اعرف كل شيء ..

– سوف تقومين باعمال البيت الطبخ والتنظيف لوحدك هل تستطعين ذلك ؟

-نعم استطيع  بقوة الله ..

– من اليوم سوف تسكنين معنا في  غرفة  واسعة في الطابق الثاني وتتركين بيت الايجار؛؛

– هذا فضل كبير منك .

– الفضل لله يا اختي ؛؛

– ساذهب الى البيت لجلب ملابسي وحاجاتي ، واسلم الدار لصاحبه..

-على بركة الله .

ذهبت وسلمت مفتاح الدار لصاحبه بعد ان افرغته من اغراضها البسيطة ..

 ورجعت لبيت ابو مرزوق ،وسكنت في الغرفة التي خصصتها لها ام مرزوق ..

عند الظهيرة جاء مرزوق الى البيت ، سلم على والدته وقبل يديها ، وسلم على والده وقبل يديه ..

صبريه احست بحنان كبير نحو مرزوق لاتعلم سببه ،كذلك مرزوق عندما شاهدها احس بشيء من العطف والاحترام الكبير اتجاهها وكانها امه ؛؛

وهي لاتعلم بانه ولدها وهو لايعلم بانها امه التي ولدته ؛؛!

تذكرت صبرية كل  ذلك وكيف انها اصبحت ضحية لذلك الشاب السافل الذي كذب عليها وسلب شرفها وتركها بدون عفتها وشرفها وكان السبب في عدم زواجها خوفاً من العار والفضيحة ؛؛

لكن الله لم يتركه دون عقوبه فقد عرفت انه استغل فتاة اخرى بنفس الطريقة التي خدعها بها ، وكذب على تلك الفتاة ، وسلب اغلى ماعندها وهو شرفها، وعندما تنصل منها اخبرت اهلها ، وكان مصيره القتل، قتله شقيق الفتاة شر قتله،فراح ضحية نزواته..

عاشت  المسكينة مع ولدها دون ان يعرفها او تعرفة ، عاشت خادمة لامه وابيه الذين قاموا بتربيته وتعليمه…

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.