رواية ( شروكَية ) رسمت يوتوبيا مدينة الفقراء للاديب شوقى كريم حسن ..يكتبها الناقد  : جمعة عبدالله

** اخي العزيز والكبير : ارجو ان تكون بخير وعافية . عزيزي سبق وان كتبت مقالة نقدية حول روايتك الرائعة : الشروكية . وهذا نص المقالة : رواية ( شروكَية ) رسمت يوتوبيا مدينة الفقراء

……………………………………………………………………………………………………..

الحصاد السردي في المتن الروائي لهذه الرواية ( شروكَية – شوقي كريم حسن ) هو نتاج حصيلة زبدة المعايشة الحياتية , في ابعادها الاجتماعية والسياسية , لمنصات زمام السرد واحداثه المكثفة بالتزاحم بالاحدث الجارية في سياق المتن الروائي, ويعطي اهمية بالغة لفعل الذات الداخلية , ومصارعته مع الواقع الموضوعي القائم , حين تكون الاحلام مطبات متعثرة ومشلولة ولا تتقدم ,بل تتراجع الى الوراء , لا يمكنها مسايرتها في مياه الواقع الفعلي , لشريحة المسحوقة والفقيرة , في المجتمع والحياة , ورصد تحركاتها اليومية , وهي مشحونة بعباءة الحزن والاهمال والحرمان , هذا واقع الفعلي لسكنة ( مدينة الثورة ) , التي تعيش بين نارين , نار تسلط السلطة الطاغية , التي تعتبرها مخزن بشري , جاهز لوقود وحطب الحروب العبثية , ونار القهر الاجتماعي , في الاستلاب والمسخ تحت مظلة الحرمان والاهمال . لذا فأن الاحلام تتعثر في اول خطواتها الحياتية . لهذا الفتى الجنوبي وهو بطل الرواية , والراوي والسارد , يشعر منذ طفولته , بحالة التيه والضياع , ويشكو الجفاف واليأس الحياة لمدينة الفقراء والمسحوقين ( مدينة الثورة ) في مطباتها الظاهرة ( مدينتنا المأهولة بالطين تمتلئ بروائح المزابل وروث الخيل وثغاء الاغنام ونداءات بائعي الملح والمجانين , ثمة صخب لا يمكن ان ينتهي , تظل الامهات صاحيات للصراخ , ويظل الاولاد يلعبون وسط برك الفوضى الآسنة , فيما تنزوي البنات عند زوايا الغرف القصية ) ص70 . , هكذا يأخذنا الروائي ( شوقي كريم ) ليدخلنا في عمق المعاناة الحياتية , لهذه الشريحة المسحوقة , بالمحاصرة والتسلط والانسلاخ والمسخ . كأن لعنة المعاناة القاسية اصابتها كحالة موروثة لا خلاص منها , لايمكن الفكاك منها . كأن اهلها هم في الحقيقة فئران اختبار , في مضاجع القهر والعسف والاضطهاد . كأن حياتها اصبحت لا تفارق رائحة الموت والبارود . هذه هي اصداء ثيمات الرواية ( شروكَية ) , ويوظف الروائي ببراعة حالة الاسترجاعات ( فلاش باك ), ويكسب اهمية بالغة , بأن الكاتب الروائي , هو من اهل ( مدينة الثورة ) ويقدم قريحة معايشته الحياتية , لذلك يغوص في المتن الروائي , الى اعماق حياة هذه الشريحة الاجتماعية بالمسحوقة بالفقر والحرمان . ويقدم خزين ذاكرته من ينابيع الطفولة , الى ينابيع السجن , كسجين رأي , في السجن المركزي في بغداد . ويستغل حالة السجن , ليلوذ بعباءة الذكريات التي مرت بها شريط حياته , ليكسر حاجز الحصار في السجن , وهو في زنزانته , كوسيلة لكسر حالة الوحشة التي يتجرعها في عذبات السجن , ليجعل من خزين الذاكرة حاسته المتيقظة على الدوام , كمعين لايمكن الاستغناء عنه , وبما يدورداخل الزنازين من حالات جائرة لا ترحم , تجعله متيقظاً يتحسس الاشياء , حتى بدون شعور , يسترق السمع لصوت رنين المفاتيح وهي تقفل الابواب , لتترك السجناء في حالة من القلق والخوف والترقب , لكي تحفز ذئاب الاسئلة المستفزة التي تخمطه في اثارتها الملتهبة , وهو يلوك المهانة والذل والعزلة داخل السجن , فتكون ساعة النوم , الاختيار الامثل لاسكات هذه العواصف الهائجة داخل جمجمة عقله , والنوم هو حالة هدنة موقتة , وهو احسن فعل لاختيار السجين , لينزع عنه بشكل موقت ,خشونة المعاملة القاسية داخل السجن , بالمهانة والذل , لتجعلهم حرائق للقلق والخوف والترقب , ان الرواية تحرث في الزمكان بشكل محدد ومعروف , لذلك ينطلق الفتى الجنوبي الذي كبر عضده في بئر الحرمان , ليروي حياته التفصيلية , اشبه بحكايات شهرزاد , ملكها , الفقر والحرمان والمعاناة , وبطلها الفتى الجنوبي , نتعرف عليه بالكشف الذاتي لسيرته , بأنه من عائلة فقيرة مسحوقة . الاب عاطل عن العمل , الام هي المعيل الوحيد للعائلة , لانها تملك ماكنة خياطة , وهي مصدر عيشهم اليومي , يضطر الفتى الجنوبي , ان يتحول الى مدرسة المسائية , ويجمعون المال , لشراء عربة لبيع النفط , وجمعوا المال اللازم من التركة التي تركها الجد الغائب . وهي عباءة ودلال نحاس , وساعة قديمة , يقال بأن السلطان عبدالحميد قدمها هدية الى جده الغائب , وهكذا ينطلق الفتى الجنوبي , يجر عربته يجول ويصول في الشوارع والازقة الضيقة , لبيع النفط , وفي احدى جولاته يتعرف على أمرأة كبير السن , وتجري معه مساومة اغرائية , مقابل درهيمات قليلة , يشبع شبقها الجنسي , يوافق على الصفقة , التي تمزق عذرية طفولته , ويشعر بأنه اصبح رجل كامل المقام , بالرجولة والفحولة . ولكن كلما تقدم في السن , تزداد وتيرة الاسئلة الصاخبة داخل عقله , ويدخل في حالة صراع حام , بين ذاته الداخلية ومطبات الواقع الموضوعي القائم , ليخوض غمار متعدد الجوانب في صراعه الحياتي , لكن يتقين بأنه يعود بعد جولات من الفحولة ,مكسور الهموم والجناح , بأن احلامه تبعثرها رياح الواقع , وتسير به نحو محطات الانسلاخ والمسخ , ومغامراته الفاشلة , التي يجد نفسه , لم تسعفه , في اسكات همومه , فيجد نفسه صريع ومحبط , اي انه يشعر بالعجز والانهزام , في مجارية الواقع بما يحمل من ثيمات جمة , اقوى من طاقته ( ليس ثمة أمل من شيء . . حياتنا انهزام متكرر !! ) ص136 . يتزوج زوجة عمه المفقود في طاحونة الحرب , وكانت له علاقة مريبة لهذه الزوجة , قبل زواجها من عمه , كأنه يعتقد بهذا الزواج عودة لحبه الضائع الذي اختطفه عمه عنوة , لكن يشعر بأنه محبط ومحطم من هذا الزواج , بمثابة خيانة الى عمه المفقود في طاحونة الحرب , ولم يكن حالة انقاذ لازمته النفسية العاصفة , بل زادت من حطامه وخرابه الروحي والنفسي , لذلك يتجنب اطلاق صفة زوجته , بل زوجة العم , وينتقل هو من طاحونة الحرب , الى طاحونة السجن ,لذا فأن حوصلة الاسئلة الصاخبة في رأسه تتزايد اكثر وتيرة وحدة عاصفة , ليحاول ان يجد الاجوبة , التي تهدئ عواصفه الهائجة . وفي محاورة مع جدته , التي تنعته بأنه يشبه جده في طرح الاسئلة المشتعلة بالهموم . نقتطف منها هذه المحاورة الدالة في معانيها البليغة :

( – جدتي . او تعرفين لمَ نحن فقراء ؟!!

اقول – يقول جدك أشياء , لا اعرف كيف ارتب كلماتها ؟!!

يقول – جدتي . أو تعرفين لمَ نحن نسكن بيوت الطين ؟!!

أقول – جدك . يقول اشياء , لا اعرف كيف ارتب كلماتها !!

————-

يقول – جدتي , لمَ كل هذا الحزن ؟ لمَ كل هذه المواجع ؟ لمَ كل هذه القبور التي تحيط بنا؟ لمَ هذا النواح الذي لا ينتهي ؟ لمَ دموع أمهاتنا أكثر من شهقات ضحكاتهن ؟!!

أقول – جدك , كان يعرف جواب كل شيء !! ) ص171

ولكن تنتهي الاحداث السرد الروائي , في عرائبية عجائبية , يطلق سراحه من السجن المركزي , في نفس الوقت يعود عمه المفقود في طاحونة الحرب

لذا فأن رواية ( شروكَية ) ابدعت في الايغال في اعماق الذات , وصراعها الناشب مع الواقع الموجود والموضوعي

× رواية ( شروكَية ) الروائي شوقي كريم

× الناشر : دار ميزوبوتاميا . للطباعة والنشر والتوزيع

× 260 صفحة

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.